صحيفة الثوري- كتابات
د. ياسبن سعيد نعمان
علم الاجتماع هو علم كاشف للمجتمعات البشرية بكل ما يتعورها من سلوك وظواهر ونشوء وتطور بما في ذلك الصراعات المرتبطة بالثروة والجاه والسلطة والصراع بين الطبقات الاجتماعية .
إنفصل علم الاجتماع عن الفلسفة ، كما هو حال بقية العلوم الانسانية الأخرى ، وتأسس كعلم مستقل على يد العالم الفرنسي دوركايم عام ١٨٩٥ أي بعد حوالي قرن من تأسيس علم الاقتصاد على يد آدم سميث عام ١٧٧٦ في كتابه الشهير “ثروة الأمم” . فهو علم حديث بالمقارنة مع الاقتصاد والفلسفة والمنطق والطب وبقية العلوم .
وبينما يتناول الاقتصاد حاجة الانسان المادية وكيفية تحقيقها ، فإن علم الاجتماع يتناول سلوكه ، وعلاقة ذلك بالاقتصاد والعمل والدين والعلاقات الاجتماعية والسياسة وصراع الطبقات .
ولا يوجد نظام سياسي معاصر سواء كان رأسماليا أم اشتراكياً أم هجينًا ، متطوراً أو متحولاً أو ناميًا لم يدرك القيمة الحقيقية لعلم الاجتماع في تحليل الظراهر الاجتماعية للاستدلال بأبحاثه ونتائجه في قياس تأثير القرار السياسي والاقتصادي على المجتمع ، ومستوى التطور ، أو التغيير الذي حدث بين تكوينات المجتمع وطبقاته المختلفة ، سواءً فيما يتعلق بمعرفة حدة التناقضات الاجتماعية ، أو قياس الموازين الانقلابية لظاهرة سيرورة التراكم الكمي إلى تحول نوعي لمنع الاختلالات الاجتماعية الكبيرة التي قد تصيب المجتمع اذا لم يُحكم هذا التحول بضوابط قانونية واخلاقية .
غير أن الأدوات المستخدمة في تحقيق هذه الوظيفة في الواقع الاجتماعي تختلف من حيث القوة والتأثير لارتباط ذلك بالتطور الاقتصادي والمعرفي والتقني ، ناهيك عن الخيال والشغف عند القادة والذي يوظف بصورة مبدعة في هذا الميدان
والحقيقة أن علم الاجتماع شهد كثيرًا من الاختلاف بين الفكر الاشتراكي والفكر الرأسمالي شأنه شأن الاقتصاد وغيره من العلوم وخاصة الانسانية منها .
ففي الفكر الرأسمالي ، الذي يرى أن الفرد هو أساس المجتمع ، تأسس علم الاجتماع وفقًا لذلك بقواعد انتظمت في اطارها العلاقات الاجتماعية بين الأفراد ، وهدف من ثم إلى تحيقيق التوازن بين المصالح الاجتماعية للأفراد ، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي دون أي تغيير في واقع الطبقات الاجتماعية . أي التعايش ، والقبول بهذا التعايش ، بالرغم من الفوارق الاجتماعية ، بمعنى أنه اهتم بتحليل الظاهرة وعمل على تبريرها ، والتمسك ببقاء الواقع والموازين المتحكمة في علاقاته الداخلية دون تغيير ، وترك عملية التطور تتم بصورة طبيعية .. أي أن علم الاجتماع في الفكر الرأسمالي يهتم بمفاهيم عامة لتطور المجتمع ولا ينشغل بتغييره ، وقد يقدم حلولاً لترشيده لا لتغييره ، أي أنه لا يصطدم بالنظام القائم .
علم الاجتماع في الفكر الاشتراكي ينطلق من حقيقة أنه يركز على الطبقات الاجتماعية وما تمر به من صراعات في كل تشكيلة من التشكيلات الاجتماعية التي عرفتها البشرية . وهو يكشف علاقات الاستغلال ، وعدم المساواة الناتجة عن هذه العلاقات التي تقسم المجتمع الى مالكين ومستخدَمين ، فقراء وأغنياء . وعلم الاجتماع هنا لا يقوم فقط بتحليل المجتمع وإنما الدعوة إلى تغييره لصالح الطبقات الفقيرة ، وبالذات لصالح القوى المنتجة ، وخاصة العمال . وهو يقدم أسباب ومبررات التغيير .
القول بأن اليسار ليس لديه اهتمام بعلم الاجتماع قول يحتاج الى تحليل واقعي يفرق بين نقد المنهج الذي يقوم عليه علم الاجتماع في التجارب الاشتراكية ، أو اليسارية ، وهذه مسألة مبررة علمياً ومنطقيًا ، أي نقد الفكرة لا إلغاء وجودها ، وبين القول بأن التجارب الاشتراكية واليسارية عمومًا ، بما في ذلك تجربة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ، أهملت علم الاجتماع خوفًا من كشف واقعها الاجتماعي .
والحقيقة أن الباحث المجتهد في هذا الميدان يجب أن لا يفوته أن هذا البلد عندما استقل كانت فيه ثلاث مدارس ثانوية فقط وكلها في مدينة عدن ولا يلتحق بها سوى ١٠٪ من مخرجات المرحلة الاعدادية . وأن التعليم الجامعي لم يتأسس بصورة منتظمة الا في منتصف السبعينات ، حيث اعطيت فيه الاولوية لتخصصات مثل الطب والهندسة والعلوم والحقوق ، وانشئت بعد ذلك كلية الآداب والعلوم الانسانية ، وكان علم الاجتماع يدرس ضمن فروع العلوم الانسانية الأخرى . ولم تتمكن جامعة أن تعتمده كتخصص مستقل في ذلك الوقت المبكر لتأسيسها، ولم يكن ذلك بسبب موقف سياسي أو أيديولوجي ، ولكن لأسباب تنظيمية بحتة شرحها لنا في مجلس الوزراء وزير التعليم الدكتور سالم باسلم عام ١٩٨٨ عندما أثير موضوع تطوير كلية الآداب في الجامعة بما اشتملت عليها من تخصصات علوم انسانية ، وأخذ بعض الدكاترة المتخصصين في علم الاجتماع يطالبون بانشاء قسم متخصص لعلم الاجتماع اسوة بفروع كلية الآداب الأخرى . في تلك الفترة ولسنوات عديدة سابقة كان علم الاجتماع ، كما ذكرنا آنفًا، يدرس في الكلية كمقررات ضمن تخصص الفلسفة ، وعلم النفس ، والاعلام ، والاقتصاد . وأتذكر أن أحد الوزراء جادل وزير التعليم في سياق حماسه لانشاء تخصص لعلم الاجتماع متسائلًا أيهما أهم الفلسفة أم علم الاجتماع ، فرد عليه كانت الفلسفة أم العلوم ، ثم أصبحت خالة بسبب انشقاق كثير من العلوم منها ، وقدك تشتي تحولها إلى طبينة . واتخذ المجلس قرارًا أوصى بموجبه وزير التربية ومجلس الجامعة بتطوير كلية الآداب ، ومن ضمن ذلك توفير الشروط الضرورية لانشاء قسم خاص بعلم الاجتماع . وهو الأمر الذي تحقق بعد ذلك بسنتين تقريبًا بعد أن توفرت للجامعة شروط وعوامل تحقيق ذلك .
القول بأن الفكر الاشتراكي له موقف سلبي من علم الاجتماع مسألة تحتاج إلى بحث منهجي لا إلى موقف سياسي يبحث عن أدلة لفشل تجربة اليسار ومنها القول بإهمال علم الاجتماع .
صحيح أن الفكر الاشتراكي كان في بداية عهده ينظر إلى علم الاجتماع كعلم برجوازي ، لكنه لم يلبث أن استخلص علمًا للاجتماع يستند على ما قدمه المفكرون الاشتراكيون من مفاهيم للتطورالاجتماعي بالاستناد إلى المادية التاريخية ، ثم تطور على أيدي مفكرين اشتراكيين ويساريين لاحقًا .حيث أخذ علم الاجتماع يتبلور من خلال التركيز على العلاقات والظواهر الاجتماعية الكبرى ، وربط تغيرها بما يحدث من تطور في قوى الانتاج ، وأهمل الى حد كبير سلوك الفرد وتأثيره في انتاج الظاهرة الاجتماعية ، لأنه نظر إلى سلوك الفرد على أنه انعكاس للوعي الاجتماعي عمومًا ، والذي يتحقق في علاقته بالتطور العام ، المادي والروحي معاً . أي أنه انعكاس للواقع الاجتماعي ، ولذلك فإنه لا يمكن تقييمه ككيان مستقل . فمهمة علم الاجتماع وفقًا لذلك لا بد أن تبدأ من الكل وصولاً إلى الجزء .
إختلف علماء الاجتماع وفقًا لمرجعياتهم النظرية والفكرية ، تقاطعوا في جزئيات واختلفوا في كليات ، والجدل حول هذا الموضوع مستمر ، وسيستمر باعتباره علم حيوي يرتبط ارتباطًا مباشرًا بتطور الانسان والمجتمعات البشرية .
غير أن ما يجب الاشارة إليه هنا هو أن ما تعرض له علم الإجتماع من تقزيم لوظيفته الحقيقية ككاشف للواقع الاجتماعي ومحرض على تغييره وتطويره باستمرار هو ما دفع البعض إلى بناء نموذج براجماتي مبسط ، ومخل بهذه الوظيفة ، لتقييم العلاقة بالمجتع وهو النموذج الذي يعتمد على أدوات اتصال لتلبية مؤقتة لحاجات اجتماعية متجذرة بواسط جمعيات خيرية وغيرها من الأدوات الخيرية التي غالبًا ما يكون هدفها هو الوصول السياسي إلى قلب المجتمع لا لتغييره وإنما لجره إلى المشروع السياسي الذي يقف وراء فعل الخير . والحقيقة أن هذا النموذج ، يشكل فيه البعد السياسي معادله الموضوعي البعد الاخلاقي . وعلى الرغم من تلبية بعض الحاجات ، إلا أنه لطالما لعب هذا النموذج دورًا سلبيًا في إخماد تفاعلات المجتمعات بتبريد انفعالاتها تجاه انظمتها السياسية بسبب ما تعيشه من بؤس وإفقار .
كما أن تفريغ الصراعات السياسية من أسبابها الحقيقية وملئها عوضًا عن ذلك بغياب تدريس علم الاجتماع عند الطرف المهزوم ، كما حدث مع الحزب الاشتراكي عند من يعزون سبب هزيمته في حرب ١٩٩٤ ، بمن فيهم بعض قيادات الحزب ، إلى ذهابه إلى مجتمع لا يعرف عنه شيئًا ، مسألة تحتاج إلى تدقيق في فهم طبيعة الصراع يومذاك . فقواعد هذا الحزب ومناضليه ونشطائه كانوا جزءًا أسياسياً في البنية السياسية والاجتماعية لليمن من أقصاه إلى أقصاه ، بل كانوا متجذرين في هذه البنية وجاءوا من أعماقها ، ومع ذلك ليس من الخطأ القول أنه ذهب إلى مجتمع لا يعرف عنه الكثير عندما يتعلق الأمر بتحالفات القوى السياسية والاجتماعية والتغيرات في مواقفها بتأثير المصالح التي تعيد انتاج أسوأ في الموروث اليمني من ثقافة سياسية لا تستقر على حال . وهي مسألة لا ينفع معها علم الاجتماع ولا كل العلوم الطبيعية والانسانية . حالة يتفرد بها اليمن وإلا لما خذلت الجمهورية على ذلك النحو الذي سارت عليه الأمور ، والذي ارتفع فيه صوت مطرقة التغيير وخفت فعلها في الواقع .
غير أن هذا لا يعفي اليسار من موقفه السلبي وفشله في إيجاد وسائل اتصال بالمجتمعات على النحو الذي ينسجم فيه مع نموذجه الذي يكون فيه التواصل عنوانًا لرؤية تعكس برنامجًا للتغيير لا مجرد تلبية حاجة لاسباب سياسية انتهازية مؤقتة . كما أن التغيرات الدرامية التي حلت بالمرجعيات الفكرية ، والمراجعات النظرية التي لم تستقر عند رؤية تستخلص منها برامج عمل تميز اليسار في تعاطيه مع محتوى العلوم الانسانية ، بما في ذلك علم الاجتماع ، شكل هذا القصور الواضح ، والذي بدا معه اليسار وكأنه يعيش حالة من العزلة التي لم يشفع له انحيازه لقضايا المجتمع أن يتجاوزها بسبب غياب أدوات الاتصال تلك . وهو موضوع سيتم تناوله على نحو أشمل لاحقًا .

