“صحيفة الثوري” – كتابات:
د. رياض الصفواني
أكاد أجزم أن كثيراً من أعضاء النخب السياسية والثقافية والمجتمعية في اليمن وإن كانت تهتم بمطالعة وقائع وحوادث تاريخية مختلفة في سياق سردي عام، إلا أن إلقاء نظرة على أدوارها في الواقع السياسي والميداني الراهن، يكشف لنا أن قراءتها للتاريخ قد لاتتعدى في الغالب حدود التسلية والاستمتاع، أو محاولة ملء ماكانت تشعر به من فراغ، أو للتباهي والاستعراض المعرفي، وربما لتوظيفها في بعض حالات الجدل والنقاشات العامة، فهي على مايبدو لاتعي سنن التاريخ جيداً ولاتدرك كُنهه، ولاتقف أمام رسالته بالتأمل وسبر الغور، لتدرك أن المقدمات الخاطئة تقود بالضرورة إلى نتائج خاطئة، وأن تكرار الخطأ خطأين، وأن التاريخ دروس وعبَر، ولذلك فهي تقع في مصيدة أخطاء سياسية تكاد تكون قاتلة على المستوى الوطني العام، ومانشهده من مظاهر عملية خلال العقد والنصف الأخير يندرج ضمن هذا السياق، الذي يكشف طبيعة ونمط تفكير تلك النخب .
وعلى هذا الأساس، نلاحظ نماذج عملية من تلك الأخطاء، كشواهد تاريخية يقف عليها صانع القرار بالدرس والتأمل.
١- فالتاريخ يخبرنا أن الملك السبئي “علهان نهفان” استعان بالأحباش لاسترداد ملكه من الحميريين في مطلع القرن السادس الميلادي، فذهب نهفان واحتل الأحباش اليمن قرابة نصف قرن. ثم جاء “سيف بن ذي يزن” وقرر أن يستعين بالفرس لطرد الأحباش، فذهب الأحباش وبقي الفرس (ممثلاً بالأبناء).
٢- عناصر قبلية من صعدة استعانت بالهادي يحيى بن الحسين الرسي (٢٢٩هـ – ٢٩٨هـ/ ٨٣٥ م – ٩١١م ) لحل خلافاتها فجاء الهادي وأصلح خلافاتها، ووفدَت إلى اليمن تباعاً شخصيات وأسَر من البيت العلوي (الزيدي) من الحجاز والعراق والديلم والجيل وطبرستان، وأسس الهادي وأولاده وأحفاده حكم الإمامة الزيدية الذي امتد نحو عشرة قرون متقطعة حتى عام ١٩٦٢م.
٣- أفراد من تهامة تضرروا من حكم بني مهدي فاستعانوا بالأيوبيين في مصر، فقوّض الأيوبيون سلطة بني مهدي وحكموا تهامة وتعز وأجزاء واسعة من مناطق ماعرف عند المؤرخين باليمن الأسفل وبعض مرتفعات القسم الأعلى من اليمن عام ١١٧٣م.
٤- السلطان الطاهري عامر بن عبدالوهاب استعان بالمماليك لطرد البرتغاليين في بداية ترددهم على السواحل اليمنية، فقتله المماليك على أبواب صنعاء عام ١٥١٧م ــ برغم أنه استعان بقوة إسلامية ضد عدو غير إسلامي ــ ! وبسطوا نفوذهم على أجزاء واسعة من اليمن .
٥- المطهر بن الإمام يحيى شرف الدين استعان بالأتراك العثمانيين ضد أبيه واخوته لتمكينه من الإمامة، برغم عدم اكتمال شروطها الأربعة عشر فيه وعلى رأسها شَرطي العلم (الاجتهاد) وسلامة أطراف الجسد، فلم تستقر له الأوضاع، وتفرق شمل أسرته بعد نزاع عنيف بينهم حول الإمامة، وشكّل هذا مناخاً ملائماً للعثمانيين لبسط نفوذهم وحكمهم على اليمن نحو مئة عام ١٥٣٨ – ١٦٣٥م.
٦- المتوكل محمد بن يحيى بن المنصور علي استعان بالأتراك عام ١٨٤٩م ضد منافسيه على الإمامة من أبناء عمومته القاسميين، فقُتل المتوكل بتهمة الخيانة، وفشلت سيطرة العثمانيين على صنعاء، وعادوا مدحورين إلى تهامة منطلقهم ومستقرهم حتى عام ١٨٧٢م.
٧- نخبة من أعيان صنعاء وبعض أئمتها في مقدمتهم الإمام غالب بن محمد وعلي بن المهدي استعانوا بالأتراك للقضاء على الاضطرابات وتمرد بعض شيوخ القبائل (مثل الشيخ حسين الدفعي) وإقرار الأمن في صنعاء وغيرها من المناطق الشمالية، فتقدم العثمانيون من عسير وتهامة تحت قيادة المشير أحمد مختار باشا وبسطوا نفوذهم على الأجزاء الشمالية من اليمن للمرة الثانية بين عامي ١٨٧٢ – ١٩١٨م.
٨- أحمد يحيى حميد الدين استعان بالنظام الملكي السعودي لإخماد حركة ١٩٤٨م في ماعرف بثورة الدستور، وتمكينه من الحكم فقضى على رموز الحركة، وحَكم شمال اليمن حتى قيام ثورة ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢م.
٩- جمهورية ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢م استعانت بمصر عبدالناصر ضد فلول الملكية، وظلت الحرب الأهلية الملكية الجمهورية مستعرة حتى مابعد انسحاب القوات العربية المصرية عام ١٩٦٧م.
١٠- الرئيس هادي استعان بالسعودية والإمارات ودول عربية أخرى لاستعادة الدولة والشرعية، فوقعت السلطة الشرعية بين فكي كماشة السعودية والإمارات ومن خلفهما القوى الكبرى.
إن مسألة طلب العون بقدر مايعكس ضعف جانب المستعين، فهو يمكِّن الطرف المستعان به من الوقوف على أحوال المستعين ومواطن ضعفه، والثغرات التي يمكن النفوذ منها للقضاء عليه، وإعطائه المبرر للتدخل باسم المساندة أو تحت أي عنوان ومبرر.
فهل الاستعانة بالقوى الخارجية على النحو الذي تبين آنفاً تنتمي إلى الحكمة التي هي “ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها” كما في كتب التراث الفقهي، ناهيكم عن الحكمة اليمانية، التي انخرطت فيها القوى المتباينة مذهبياً وفكرياً وسياسياً على الساحة اليمنية على مَر التاريخ فكان ما كان.
وهل تلك الاستعانات والاستقدامات حتمية تاريخية بالضرورة؟ بالتأكيد لا. لكن السؤال المُلِح: متى يراهن اليمنيون على قدراتهم الذاتية في معالجة قضاياهم والنأي بالبلاد عن التدخلات الخارجية، لاسيما وأن التاريخ اليمني أثبت في معظم محطاته (خطيئة) التواكل والمراهنة على الغير، المفضية في نهاية المطاف إلى تآكل الشخصية اليمنية، وتدمير مقوماتها، وخلخلة بنيانها؟!
وفي تاريخكم أفلا تبصرون !.