آخر الأخبار

spot_img

“التجديد الديني… بين غربلة التراث واستمرارية الوحي”

صحيفةالثوري- كتابات:

*أ. وليد صالح عياش

من أعظم المآزق التي تواجه الخطاب الديني المعاصر هي تلك المفارقة المؤلمة بين التبجيل المطلق للتراث، والجمود في وجه التجديد. فبدلًا من قراءة التراث كمرحلة من مراحل الفهم البشري للوحي، يجري التعامل معه كحقيقة مكتملة أبدية، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.

وفي هذا السياق، يصبح الامتناع عن نقد التراث وتنقيته وغربلته شبيهًا بطبيب يُعرض عليه مريض مصاب بفشل في الكبد، وقد اصفرّ وجهه، فيكتفي بإعطائه مرهمًا لتبييض البشرة بدلًا من علاج أصل الداء. فقد تبدو الأعراض محسّنة، لكن المرض باقٍ، مستفحل، وقد يُجهز على الجسد كله لاحقًا.

نحن اليوم في حاجة ماسّة إلى ما هو أعمق من التجميل الخطابي أو التبرير العاطفي. نحن بحاجة إلى تشخيص فكري جذري للخلل، وإلى تجديد ديني عميق يعيد فتح النوافذ المغلقة بين الإنسان والسماء، بين النص وروحه، بين الموروث وروح العصر.

مشكلة التراث ليست في وجوده بل في تمجيده الجامد

التراث في جوهره ليس خطرًا، بل هو مرآة لفهم بشري تراكم عبر قرون. لكن تحويله إلى صنم فكري، والتعامل مع أقوال البشر كما لو كانت هي عين الدين، هو ما أغلق أبواب الحياة عن الدين نفسه.

لقد جعلنا من الدين نصوصًا مغلقة، لا روحًا هادية. فصرنا نبحث عن “التبرير” بدل “التحرير”، وندافع عن كل ما ورثناه ولو تعارض مع الفطرة والعقل والواقع.

التجديد الديني الحقيقي: لا يأتي من الأرض فقط، بل من السماء

كلما خضنا نقاشًا في التجديد، بدا المشهد كما لو أن المشكلة هي في “التقنيات” أو “الإصلاح المؤسسي”، بينما الجذر الأعمق هو أننا أغلقنا باب السماء.

نعم، إن أعظم ما كبّل عقول الأديان الكبرى هو القول بانقطاع الوحي، وبأن السماء قد قالت كلمتها وانتهى الأمر، ولم يعد لله من جديدٍ يرسله، ولا رسولٍ يبعثه، ولا هدىً يتنزل.

هذا الإغلاق جعل الدين يدور حول ذاته، يتحوّل إلى نظام يبرّر وجوده لا يفتح أبواب الحقيقة. وأدى إلى جعل العقل تابعًا للنصوص البشرية، لا محرّكًا لفهم الوحي الإلهي المتجدّد.

لكن حين نعود إلى جوهر الرسالات السماوية، نجد أنها لم تكن فقط تجديدًا للمعرفة، بل تجددًا في صلة الإنسان بالله، واستجابة لحاجاته المتغيّرة، وتطهيرًا مما علق بالدين من تحريف أو تأويل مغشوش.

فكرة استمرارية الرسالات: أفق لحل الأزمة

إن الإيمان بأن هدايات الله لا تنقطع، وأن السماء لم تغلق أبوابها بعد، يحرّرنا من أسر الجمود، ويجعلنا مستعدين لتلقي ما هو جديد، دون خوف ولا رفض.

فكرة استمرارية الرسالات تذكّرنا بأن الله، الذي لا تنقطع رحمته، لا يمكن أن يترك البشرية في ظلمات بعضها فوق بعض، دون أن يرسل من يدلهم على نور جديد، يتكافأ مع متطلبات زمنهم وتطور وعيهم.

وحين نفهم الدين كمسيرة متصلة، لا كواقعة ماضية، تصبح الرسالة تجربة حيّة، والمبعوث الإلهي ضرورة وجودية، لا مجرد ذكرى تاريخية.

وعليه، فلا تكمن الأزمة فيما ورثناه فحسب، بل في تعطيله للمقدرة على الإصغاء من جديد. إذ لا تكمن الأزمة في أن نرث تراثًا، بل في أن نغلق كل احتمال لما بعده. ولا تكمن المشكلة في أن نحترم فهم الأوائل، بل في أن نصمّ آذاننا عن نداء الله المتجدد في كل عصر.

إن التجديد الديني الحقيقي ليس مهمة فردية فقط، بل هو استجابة جماعية لصوت الله حين يُعيد مخاطبة العالم، بصوت جديد، ورسالة جديدة، تستأنف الوحي، وتحيي المعنى، وتبثّ الحياة في النص من جديد.

* الأمين العام للمجلس الوطني للأقليات في اليمن