آخر الأخبار

spot_img

وداعاً سلطان الصريمي

“صحيفة الثوري” – كتابات:

د. ياسر هاشم الهياجي

حين تُفارق الحياة صوتًا شعريًا أصيلًا مثل سلطان الصريمي، نشعر بأن الوطن قد فَقَدَ نبضًا من روحه وشعلةً من نوره. مات سلطان الأدب، والحب، والشعر، صاحب ملحمة “نشوان”، “لا تفجعك خساسة الحنشان”، سلطان الشاعر الذي لامست كلماته قلوب الملايين، وأطربت النفوس حين حملتها أصوات عدد من الفنانين من أبرزهم رفيق دربه عبدالباسط عبسي.

لم يكن مجرد شاعر غنائي وحسب؛ بل كان حاملًا لأماني الناس، وشاهدًا على آلام اليمن وأحلامه، ينحت بالكلمات وجع الوطن وأمله، ويغزل حكايات البسطاء بصدقٍ وإبداع.

كان الصريمي شاعرًا استثنائيًا، صنع من الكلمة نافذة تطل على عمق الحياة اليمنية، حيث الأغاني ليست مجرد ألحان، بل مرآة تعكس الحنين، الهموم، وحب الأرض؛ لأنه جاء من قلب الأرض ومن تعاريج المجتمع بأوجاعه وأحزانه حين وُلِد في قرية صغيرة بمحافظة تعز، فعبر عن احاسيس مجتمعه وأطرب القلوب. كان شاعرًا بالفطرة والفطنة والعلم، وهو الذي يحمل ماجستير في الأدب الشعبي، ودكتوراه في فلسفة العلوم الاجتماعية من موسكو، ولهذا نجده أبدع في تصوير القضايا الاجتماعية، فكانت “مسعود هجر” انعكاسًا حقيقيًا لواقع مرير تعيشه المرأة اليمنية، حين ظهر محاميًا لها بامتياز. وغدت “واعمتي” مروية الغربة في المجتمع اليمني التي نُسجت على وقع حروفها الحكايات والأغاني والأقوال الشعبية. وحتى في أفراح الناس ترك لهم نبض كلماته أُنسًا يُبدد وحشتهم، وهدايا من الفرح تغني لهم: “لفرحتك يا حبيب كل الورود، ولك يغني ويرقص الوجود”، فكأنما كان الصريمي صوتًا يحمل بهجة الحياة إلى قلوبهم.

 

كانت اليمن هواه، وقبلته، وصلاته، وحياته، فكانت حروفه للوطن، وضميره الوطن “لحّن لصنعاء نشيد الأرض والريحان .. ولاح برق المعنّى في جبل شمسان”. ولا أُبالغ إن قلت أن الصريمي كان رُبّان الأغنية السياسية في اليمن، صوتًا نابضًا بوجدان الشعب وآماله، يترجم أحلامهم وآلامهم إلى كلمات خالدة. تجسّد هذا في قصيدته “نشوان”، وفي رائعة “المغالط كم شُغالط؟! شاقي اليوم غير شاقي زمان” حيث عبّر بصدق وإبداع عن تطلعات البسطاء وتحولات الزمن.

 

شكَّل الشاعر سلطان الصريمي والفنان عبدالباسط عبسي ثنائيًا استثنائيًا، قدّما أعمالًا غنائية خالدة نُقشت في الذاكرة اليمنية بحروف من نور. كانت تنبض بعبق التراب اليمني وأحلام الفلاح الباحث عن غدٍ أفضل. ومن أبرز تلك الإبداعات التي أضاءت سماء الفن: “أذكرك والسحائب”، “يا صباح الباكر”، “يا من سلب عقلي”، “عش السرور”، “يا شعب”، “لا تخافي”، “مباسم الضوء”، “يا هاجسي”، “الزفة”، “عروق الورد”، “باكر ذري”، “الجفاف”، “عهد”، “يا منيتي”، “واعْمتي”، “قِنع روحي”، “ديك الصباح”، “ورد خضبان”، “ورود نيسان”، “همس الشروق”، “يا واهب الحسن”، “ارحمني شوي”، حنين الأرض يا سلمى”، “ومتى واراعيه ِشمطُر”.

لكن شعره لم يكن حِكرًا على عبدالباسط عبسي فقد انصهرت كلماته في أصوات عدد من الفنانين اليمنيين والعرب، وفي مقدمتهم: الفنان محمد مرشد ناجي غنّى له “نشوان”، وغنى له محمد صالح شوقي “أنا لك لو نسيت” التي غناها أيضاً رشدي العريقي. كما غنّى له نجيب سعيد ثابت “أعشقك، لسبتمبر، مزمار للوطن، ولقاء”، وعبداللطيف يعقوب “أمي والطاعون”. ومن العرب غنت له السورية شوقية العطار من لحن العراقي حميد البصري “خطوة بعد”، وغنّى له قيس العراقي قصيدة “وطن”، وغنت له فرقة الطريق العراقية ” أبجدية البحر والثورة”. وغنّى له الموسيقار احمد فتحي “بارق الزهر يمسي قبالي يشرح الدرس من أوله .. وان سرح خاطري في خيالي يقلب الشرح سمره وعود”، وغنّى له ايضًا “طبيبي انت جبري والخواطر.. وبك يرتاح شوقي من سعيره.. ولك غنّيت الحاني النوادر.. وفي حضنك لقي عطري زهوره”.

 

تسلل سلطان الصريمي بكلماته إلى وجدان اليمنيين، فتفتحت مشاعرهم، وأزهر الحب في قلوبهم على إيقاع قصائده وروائعه الغنائية. من بين هذه الروائع، قصيدته الخالدة: “تليم الحب في قلبي تذكرني بأيام الهثيم.. تذكرني دوادح حبنا الغالي ودخداخ النسيم”، التي تغنّى بها أيوب طارش في عام 1974، لتصبح أغنية يتيمة للصريمي أنجبها ايوب، وحملت عطر الحنين، فسافرت عبر الآفاق، لتبقى لغةً خالدة بين العشاق، وكم سافر العشاق على أجنحة أغانيه التي امتزجت فيها البساطة بالعمق، والفرح بالحزن. فكانت كلماته تسري كالنسمات في ليالي العشاق، تُشعل الشوق وتُسيل جداول الحنين على خدودهم: “آه لو يدري كم أنا مشتاق.. دمعتي تجري ترسل الأشواق”.

 

ترجّل سلطان الصريمي عن دنيانا ودنيا الشعر، لكن “تليم الحب” ما زالت تروي للأجيال حكايات “أيام الهثيم”، وما زال مسعود يمضي مهاجرًا، يترك خلفه المصائب والمصاعب. غاب الصريمي، لكن “العين من غالي الدموع تذرف”، و”في العيون ترقص الأماني”، فيما “عروق الورد مستني رعودك” تنبض بالانتظار. رحل، لكن “الجعانن” ما زالت تتربع المشهد تأبى أن تغادره، مات وتركنا مع صدى كلماته الحية: “الموت يا ابن التعاسة يخلق الشجعان”.

رحل الصريمي، لكنه ترك خلفه سؤالًا يتردد كالصدى في الآفاق، يسأل الراعية: “متى واراعيه شامطُر؟ وما مطرة تجي من غير رعود!” وكأنما أراد أن يظل صوته شاهدًا على شغفه بالوطن، وعلى غيومٍ تنتظر برقًا يعيد للحياة إيقاعها.

غاب الصريمي عن دنيانا، لكننا ما زلنا نترقب الخير الذي وعدّ به، ونسأل السماء أن تمطر ألحانًا تروي أشواقنا “ننتظر للخير والبلاد ساقي، والمطر يُندي لحن أشواقي”، متشبثين بحلم اللقاء الذي رسمه: “منيتي يا ريم يوم نتلاقي”، وكأن صوته ما زال ينادي من خلف الغياب.

وداعًا سلطان الصريمي

وداعًا يا صوت الحنين والكاذي وهزّات الشجون..

سنتذكر كلماتك وجداول عطاءك، سنذكرك “والسحائب يغمزين للشعير.. والبلابل تُغني لحن ماطر غزير”

إلى جنة الخلد