صحيفة الثوري- المحرر الثقافي:
في صباح بيروتيّ حزين، وتحديدًا في 8 يوليو 1972، امتدّت يد الغدر الصهيونية لتغتال صوتًا لم يحمل بندقية، لكنه كتب كما لو كان يطلق الرصاص. غسان كنفاني، أيقونة النضال الفلسطيني، استشهد وهو على مشارف السابعة والثلاثين، تاركًا وراءه أدبًا مُحمّلاً بالقضية، وضميرًا لا يموت.
ولد كنفاني في مدينة عكا شمال فلسطين عام 1936، قبل أن تُجبره نكبة 1948 على النزوح مع عائلته إلى لبنان، ثم إلى سوريا حيث عاش لاجئًا، شأنه شأن آلاف الفلسطينيين الذين تحولوا إلى غرباء على أطلال بيوتهم. في دمشق، أكمل دراسته الثانوية، والتحق بكلية الأدب العربي، لكنه لم يُنهِ دراسته، إذ اجتذبه العمل السياسي مبكرًا فانضم إلى “حركة القوميين العرب” بعد لقائه بجورج حبش عام 1953.
عمل معلمًا في الكويت، حيث كتب أولى قصصه القصيرة “القميص المسروق”، ثم انتقل إلى بيروت عام 1960 ليبدأ مسيرته الصحفية محررًا في مجلة “الحرية”، فمديرًا للقسم الثقافي، فرئيسًا لتحرير جريدة “المحرر” اللبنانية حيث أطلق “ملحق فلسطين”، وبعدها في “الأنوار”، إلى أن أسس عام 1969 مجلة “الهدف” الناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي كان أحد قادتها السياسيين وناطقها الرسمي.
صوت اللاجئ… وضمير المخيّم
كتب كنفاني عن اللاجئين، لا بلسان الشفقة، بل بصوت الشهود. لم تكن رواياته مجرّد نصوص أدبية، بل وثائق حياة. من “رجال في الشمس” التي سطّرت عار الصمت، إلى “عائد إلى حيفا” حيث يجترح الألم أسمى معاني العودة، إلى “أم سعد” التي جعلت من المرأة الفلسطينية مثالًا على الصبر والمقاومة. كانت شخصياته حقيقية، تمشي بين الناس، تئنّ من الجوع، وتصرخ بالكرامة.
لم يكن غسان يكتب ليرضي، بل ليهزّ، ليوقظ، ليصدم. وكان يعي تمامًا أن قلمه قد يكون أثمن من رصاصة، ولذلك لم يكن غريبًا أن يوضع اسمه في قائمة التصفيات التي أعدّها الموساد الإسرائيلي بأمر مباشر من غولدا مائير. كانت القائمة تضم كبار القيادات السياسية والعسكرية والثقافية الفلسطينية، وكان غسان، الكاتب والفنان، بين الأهداف.
الاغتيال… عندما يُقتل الحرف
في صباح اليوم المشؤوم، نزل كنفاني من شقته في منطقة مار نقولا ببيروت الشرقية، يرافقه لميس حسين نجم، ابنة شقيقته، ذات السبعة عشر ربيعًا. وما إن فتح باب سيارته، حتى انفجرت العبوة التي زرعها الموساد الإسرائيلي، في لحظة باغتت الطفولة والكتابة معًا، وأسكتت صوتًا ظلّ منذ ذلك اليوم يجلجل في ذاكرة فلسطين.
ترك غسان زوجته الدنماركية “آني”، وابنيه فايز وليلى، وترك وراءه إرثًا أدبيًا وموقفًا سياسيًا لا يزال يؤرق المحتل ويُلهم الأحرار.
غسان كنفاني… لم يمت
رغم مرور أكثر من نصف قرن على استشهاده، لا يزال غسان كنفاني حيًا في كتبه التي تُدرّس، ومقالاته التي تُقتبس، وأفكاره التي تتناسل جيلاً بعد جيل. لم ينفّذ عمليةً فدائية، لكنه أسّس لوعيٍ مقاوم. لم يحمل بندقية، لكنه رفع فلسطين على صفحات كل صحيفة كتب فيها، وعلى جبين كل قارئ فهم أن الحكاية لم تنتهِ بعد.
غسان كنفاني، هو الحكاية ذاتها.
هو الصوت الذي لا يُطفأ.
هو الفلسطينيّ الذي كتب كي لا يُنسى أحد.