“صحيفة الثوري” – (تقرير) – خاص:
أحمد الحاج
في بلد أنهكته سنوات الحرب والأزمات الاقتصادية، تتزايد مظاهر الفقر والعوز يوماً بعد آخر، حتى بات الشارع ملاذاً أخيراً لكثير من الأسر. غياب الرواتب، وتراجع المساعدات، وتوقّف نشاط المنظمات الإنسانية، خلّف فراغاً هائلاً في منظومة الحماية الاجتماعية. وفي ظل هذا الواقع، لم يعد التسوّل سلوكاً فردياً أو ناتجاً عن الكسل كما يراه البعض، بل تحوّل إلى وسيلة بقاء اضطرارية تفرضها قسوة الظروف. وبين جولةٍ مروريةٍ وأخرى، وأبواب المساجد بعد كل صلاة، تتكاثر الوجوه الباحثة عن لقمةٍ تسدّ رمق الجوع.
التسوّل ظاهرةٌ اجتماعية ذات أبعادٍ أمنيةٍ وصحيةٍ وإنسانيةٍ واقتصادية. وعندما تقلّ قدرة شبكات الحماية الاجتماعية، الحكومية والمجتمعية والمنظمات، على أداء وظائفها، تصبح الأسر الأكثر هشاشة عرضةً لاستراتيجياتٍ خطرة، منها إرسال الأطفال للتسوّل أو الاعتماد على الشوارع كموردٍ للدخل. تزايد التسوّل يظهر كنتيجةٍ لتداخل عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية. والتضييق على عمل المنظمات أيضاً قد لا يكون سبباً منفرداً أو دائماً، لكنه يعمل كمضاعفٍ للضغط على الأسر الفقيرة، ويزيد من معدلات تعرّض الأطفال والشباب للشارع.
شهادات من الميدان
عبدالله (45 عاماً)، أبٌ لخمسة أطفال، عند إحدى الجولات المرورية: “كنت أعمل في البناء، لكن العمل توقّف منذ أشهر. كنا نحصل على مساعدات من منظمة توقّف نشاطها قبل عام. حاولت أبحث عن عمل، لكن ما في فرص. الآن أرسل ابني الكبير ليبيع المناديل عند الإشارات، وأحياناً نضطر نطلب المساعدة من الناس.”
سعاد (27 عاماً)، أرملةٌ وأمٌّ لطفلين، أمام أحد المساجد بعد صلاة العصر: “زوجي توفي في الحرب، والمنظمة التي كانت تساعدنا أغلقت مكتبها. حاولت أشتغل خياطة في البيت، بس ما عندي ماكينة. ما عاد عندي خيار إلا أجلس بعد الصلاة أطلب من الناس. أحياناً أرجع ومعي ما يكفي لعشاء الأطفال، وأحياناً لا.”
حسن (12 عاماً)، طفلٌ يبيع المناديل في الشوارع: “أوقف عند الجولات أبيع مناديل، بعض الناس يعطوني فلوس بدون ما يشتروا. كنت أروح المدرسة، بس توقّفنا لما ما قدرنا نشتري الدفاتر والزي أو ندفع المساهمة المجتمعية.”
محمد، سائق تاكسي: “كل يوم عند كل إشارة تلقى ناس كثير، نساء وأطفال وشيوخ. في بعض الجولات صاروا أكثر من السيارات نفسها! الوضع صعب، بس كمان مخيف، لأن كثير منهم محتاجين فعلاً، والبعض يستغل الوضع. وناس قدها شغلتهم التسوّل.”
أم محمد، وهي سيدة في منتصف الثلاثينات تقف قرب أحد المساجد بعد صلاة الجمعة: “كنا نستلم سلة غذائية كل شهر من منظمة محلية. توقّفت المساعدات فجأة، والآن لا أملك سوى الدعاء ومدّ اليد بعد الصلاة.”
الدور الحكومي: غائب بسبب ضعف التمويلات
يقول أبو صالح، وهو موظف في صندوق الرعاية الاجتماعية منذ 25 عاماً: “الصندوق كان قبل الحرب يعمل على حماية وصرف المساعدات للأسر الفقيرة بشكلٍ ربعي، وكان يرعى مليوناً وخمسمائة ألف حالةٍ أسرة في عموم الجمهورية اليمنية. وبسبب الحرب انقطع التمويل الحكومي لهذه الأسر. عمل البنك الدولي على صرف 19 دورةٍ عبر اليونيسف والصندوق الاجتماعي حتى نهاية العام 2024م، ومن ثم توقّف الدعم.”
ويقول محمد، أحد موظفي الهيئة العامة للزكاة: “الهيئة تجمع خلال العام أكثر من 400 مليار ريال. يتم صرف مساعداتٍ للفقراء في كل حيٍّ وفي كل محافظة في رمضان من كل عام، أو يتم صرف مساعداتٍ فوريةٍ لمن يصل إلى الهيئة العامة للزكاة.”
المنظمات… تقلّص الدعم
أحد موظفي برنامج الغذاء العالمي (رفض ذكر اسمه) يقول: “البرنامج كان يستهدف أكثر من مليوني أسرة. وبسبب طول فترة الأزمة اليمنية التي لا حلّ لها، تقلّص الدعم المقدم من المانحين، ما نتج عنه تقليص الكميات على المستفيدين. كما اعتمد البرنامج على مراجعةٍ دوريةٍ لسجلات المستفيدين التي تقلّصت بسبب الدعم المحدود الموجّه للبرنامج. أيضاً البرنامج اعتمد آليةً أخرى تمّ تجريبها في بعض المديريات، وهي إرسال حوالاتٍ نقديةٍ لتخفيف الأعباء على المستفيدين، لكن الآن لنا أكثر من تسعة أشهر متوقّفين.”
تقول أمينة (مشرفة في منظمةٍ محليةٍ توقّفت أنشطتها): “كنا نغطي أكثر من 400 أسرة في هذا الحيّ بالمواد الغذائية والنقد الشهري. بعد القرارات الأخيرة ما قدرنا نجدد التصريح ولا نحصل على التمويل. كثير من الأسر التي كانت تعتمد علينا اضطرّت للشارع، حتى إحنا كعاملين فقدنا مصدر رزقنا.”
وتوضح ناشطةٌ اجتماعية (فضّلت عدم ذكر اسمها): “المنظمات كانت تصرف مساعداتٍ نقديةً وغذائيةً بشكلٍ دوري. التضييق عليها خلّى كثيراً من الأسر تخرج تبحث عن أي وسيلةٍ للبقاء. لما تقطع آخر خيط أمان للفقراء، الشارع يصبح هو الملجأ.”
نهاية مفتوحة على وجع الفقر
نرى أن تزايد أعداد المتسوّلين في الشوارع والمساجد لا يعكس فقط رقعة الفقر، بل يعبّر عن انهيارٍ تدريجي في شبكات الحماية الاجتماعية وتراجع دور المؤسسات الرسمية الداعمة. واستمرار التضييق على المنظمات وضعف الموارد الحكومية يجعل الفقراء أمام خياراتٍ محدودة لا تتجاوز الشارع ومدّ اليد. في المقابل، تبقى الحاجة ماسةً إلى تحرّكٍ جماعي يوازن بين ضبط الظاهرة ومساعدة المحتاجين بكرامة، عبر تفعيل برامج الدعم، وتشجيع المبادرات المجتمعية، وإعادة الثقة بدور المنظمات الإنسانية. فمكافحة التسوّل لا تبدأ بالملاحقة، بل بفتح أبواب الأمل والعيش الكريم لمن أغلقت في وجوههم سبل الحياة.




