آخر الأخبار

spot_img

من جراح الذاكرة إلى أفق العدالة: دراسة جديدة تستلهم التجربة التشيلية لبناء سلامٍ منصف في اليمن

(جنيف) – “صحيفة الثوري”:

أطلقت منظمة سام للحقوق والحريات، بالشراكة مع رابطة أمهات المختطفين وبدعمٍ من معهد دي تي ضمن مشروع سبارك، دراسةً تحليلية بعنوان: “التجربة التشيلية للعدالة الانتقالية وآفاق الاستفادة منها في اليمن عبر دور المجتمع المدني” للباحث عادل دشيلة، التي تسعى لاستكشاف الدروس التشيلية في مواجهة إرث الانتهاكات وكيفية تكييفها لبناء مسار عدالة انتقالية يمني يضع الضحايا في مركز العملية، ويؤسس لسلامٍ دائمٍ قائمٍ على الحقيقة والإنصاف لا على التسويات السياسية المؤقتة.

اليمن.. تاريخٌ مثقلٌ بالانقسامات وغياب العدالة

تُبرز الدراسة أن اليمن عانى لعقود من أزماتٍ متراكمة وصراعاتٍ مسلحةٍ لم تُتبع بمساءلةٍ أو إنصافٍ حقيقي، ما ولّد ثقافة الإفلات من العقاب.

وتوضح أن جذور الأزمة تعود إلى ما قبل الوحدة، حين غابت المساءلة عن النزاعات المتكررة، وصولاً إلى حرب 1994، وحروب صعدة بين 2004 و2010، ثم الانهيار الشامل لمؤسسات الدولة عام 2014.

وتشير الدراسة إلى أن الانتهاكات التي رافقت تلك المراحل —من القتل خارج القانون، والإخفاء القسري، والتعذيب، والتجنيد الإجباري للأطفال، والمصادرة القسرية للممتلكات— كشفت فشل المنظومة القضائية في أداء دورها نتيجة الانقسام والتسييس وضعف الكفاءة.

وترى أن غياب الإرادة السياسية حال دون تفعيل مبادرات العدالة الانتقالية السابقة، مثل قانون العدالة الانتقالية ومخرجات الحوار الوطني، مؤكدة أن العدالة في اليمن ليست إجراءً تقنياً، بل قضية بنيوية تتطلب إصلاحاً جذرياً للمؤسسات وإحياء الذاكرة الوطنية بوصفها أساس الثقة العامة.

تشيلي.. من اعتراف الدولة بالضحايا إلى ترميم الذاكرة الجماعية

تستعرض الدراسة تجربة تشيلي بعد نهاية حكم الجنرال بينوشيه (1973–1990)، باعتبارها نموذجاً لمسارٍ تدريجيٍّ واقعيٍّ للعدالة الانتقالية.

فقد شكّلت لجنة الحقيقة والمصالحة (ريتيغ) نقطة الانطلاق نحو مصالحة قائمة على الحقيقة لا على النسيان، إذ قدّمت أول اعتراف رسمي من الدولة بضحايا القمع السياسي.

ولعب المجتمع المدني التشيلـي —وخصوصاً الكنيسة الكاثوليكية ومنظمات مثل نيابة التضامن— دوراً محورياً في توثيق الانتهاكات وبناء أرشيفٍ قانونيٍ أصبح لاحقاً أساساً للمحاكمات.

كما مثّل برنامج PRAIS لجبر الضرر نموذجاً عملياً في استعادة كرامة الضحايا عبر الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية والتعليمية، بينما تحولت مواقع القمع إلى فضاءاتٍ للذاكرة الوطنية مثل “فيلا غريمالدي” و“ملعب سانتياغو”، لتصبح رموزاً حية لتاريخٍ لا يُراد طمسه بل تذكّره كي لا يتكرر.

تكييف الدروس التشيلية في الواقع اليمني: عدالة تبدأ من المجتمع

تؤكد الدراسة أن استلهام التجربة التشيلية لا يعني نقلها بحذافيرها، بل تكييفها بما يلائم تعقيدات الواقع اليمني.

ويقترح الباحث مساراً متدرجاً يبدأ من المجتمع المدني، عبر إنشاء منظومة وطنية موحدة للتوثيق والأرشفة تجمع الشهادات والأدلة وتبني قاعدة بياناتٍ آمنة تُشكل أساساً لسرديةٍ وطنية موثوقة.

كما توصي بإنشاء برنامج وطني شامل لجبر الضرر يتجاوز التعويض المالي إلى الرعاية النفسية والصحية والتعليمية، مع الاعتراف الرسمي بالضحايا ودمجهم في الحياة العامة، بدعمٍ من صندوق وطني مستدام.

وتشدد الدراسة على أهمية إطلاق مشروع للذاكرة المجتمعية يحوّل مواقع الانتهاكات إلى متاحف ومراكز تعليمية، ويشرك النساء والشباب في قيادة هذا المسار، بوصفهم الأكثر تضرراً والأقدر على إعادة صياغة رواية المستقبل.

التحديات اليمنية.. بين ثقل الواقع وإمكانات التكييف

تلفت الدراسة إلى أن اختلاف السياقين اليمني والتشيلي يفرض ضرورة الحذر من فكرة الاستنساخ.

ففي اليمن، تتشابك القوى المسلحة والتدخلات الإقليمية والانقسامات المؤسسية، ما يجعل العدالة الانتقالية رهن تصميمٍ محليٍّ مرنٍ وواقعي.

وترى الدراسة أن الثقافة القبلية —رغم ما تحمله من مفاهيم الثأر— يمكن أن تُوظّف إيجابياً لصالح العدالة التصالحية، شرط أن تُدمج في إطارٍ قانوني وأخلاقي يوازن بين الحقوق والمصالح.

وتحذّر من الوقوع في فخ الانتقائية السياسية أو استبعاد الضحايا من مسار العدالة، مؤكدة أن الشفافية والاستقلالية المؤسسية هما الضمان الحقيقي لأي نجاح.

سلامٌ يقوم على الحقيقة لا على النسيان

تؤكد الدراسة أن المصالحة الوطنية لا يمكن أن تسبق العدالة، لأن سلاماً بلا حقيقة هشٌّ وقابلٌ للانهيار، بينما العدالة التي تُبنى على كشف الحقيقة وجبر الضرر تُنتج استقراراً مستداماً.

وتوضح أن العدالة الانتقالية في اليمن يجب أن تقوم على ثلاث ركائز مترابطة: الحقيقة، والمساءلة، وجبر الضرر، باعتبارها المكونات الأخلاقية لأي سلامٍ منصف.

كما تدعو إلى دمج العدالة الانتقالية في أي تسوية سياسية قادمة، لضمان عدم تكرار الانتهاكات وبناء الثقة بين الدولة والمجتمع، مؤكدة أن بناء السلام لا يتحقق بالقوة أو الصفقات، بل بعمليةٍ مجتمعية طويلة الأمد تُعيد تأسيس العلاقة بين المواطن والدولة على أساس الكرامة والإنصاف.

نحو ذاكرة وطنية تصون المستقبل

تخلص الدراسة إلى أن العدالة الانتقالية ليست ترفاً سياسياً بل شرطٌ أساسي لسلام اليمن، وأن تجاهلها يعني إدامة العنف وإعادة إنتاج المأساة.

وتؤكد أن المجتمع المدني اليمني يحمل مسؤولية تاريخية في قيادة هذا المسار عبر التوثيق والمناصرة وحفظ الذاكرة، بدعمٍ دوليٍّ يحترم السيادة الوطنية.

وتختم بأن تجربة تشيلي تُثبت أن الشعوب قادرة على مواجهة ماضيها بشجاعة، وأن الاعتراف بالألم هو الخطوة الأولى نحو الشفاء الجماعي وبناء سلامٍ يستند إلى العدالة.