“صحيفة الثوري” – كتابات:
د. منير السقاف
في تلك اللحظات التي عمّ فيها الهدوء سماء غزة، وتوقفت أصوات القذائف بعد حربٍ داميةٍ طويلة، لم يكن ذلك مجرد وقفٍ لإطلاق النار، بل كان عودةً للحياة ولو على أطلالٍ مدمّرة.
شعورٌ غامرٌ بالسعادة اجتاح القلوب — سعادةٌ مشوبةٌ بالدموع — حين شاهدنا أبناء غزة يعودون إلى أحيائهم المهدّمة، إلى منازلهم التي كانت بالأمس ملاذًا لهم وصارت اليوم ركامًا، وإلى قبور أحبّتهم التي رسمت ملامح الحزن على مداخل المدينة.
كانت المشاهد أقوى من كل الكلمات…
طفلٌ يحمل حقيبة فارغة، وامرأة تلمس جدارًا لم يعد قائمًا، ورجلٌ يقبّل ترابًا لم يبقَ منه سوى الذكرى.
لكن وسط الألم، كان هناك وهج انتماء، شعور لا يُشترى: هذا وطني… هنا جذوري… وهنا سأعود مهما كان الثمن.
وعند هذه اللحظة، لا يمكنني أن أمنع نفسي من المقارنة بين حال أبناء غزة الذين يعودون إلى وطنهم رغم الركام، وبين أبناء اليمن الذين يعيشون منذ أكثر من خمس سنوات في المنفى القسري — في مصر، والأردن، وتركيا، والرياض — ينتظرون سلامًا لا يأتي، وهدوءًا لا يلوح في الأفق.
لقد رأينا في غزة مشهد العودة رغم الخراب، بينما نحن في اليمن نعيش البعد رغم الصمت.
لقد أوقفت الحرب في غزة، فعاد الناس إلى الوطن،
أما في اليمن… فقد أُوقفت الحرب من دون أن يعود الوطن.
إن مشاهد أبناء غزة وهم يسيرون بين الركام بقلوبٍ مفعمة بالانتماء، تختزل معنى الوطنية الحقيقية… حب الوطن لا يقاس بالرخاء، بل بالقدرة على العطاء في أقسى الظروف.
أما نحن — أبناء اليمن — فقد علّمتنا الغربة أن الوطن لا يُنسى، حتى لو باعدت بيننا المسافات، وأن العودة ليست فقط إلى أرضٍ، بل إلى كرامةٍ وذاكرةٍ وهويةٍ.
في غزة، كان الركام يرحّب بأبنائه، وفي الشتات، ينتظر اليمنيون يومًا يعودون فيه إلى أرضٍ قد تغيّرت، لكن حبهم لها لم يتغيّر.
هذا الفرق بين من وجد وطنًا مدمّرًا فعاد إليه،
وبين من فقد وطنه في صمتٍ طويلٍ وما زال ينتظر.