آخر الأخبار

spot_img

هل مرّوا يا جار الله؟

“صحيفة الثوري” – كتابات:

شوقي نعمان

“من قال إن سراج الدار انطفأ، أو أن قلب المدينة توقّف عن النبض؟”
نعم، لقد مرّوا يا جار الله..! نعم، مرّوا كما تمرّ الريح فوق الأطلال، وخلفوني هنا أُردّد في العراء:
يا رفاق، يا رفيق، يا مناضل، يا جيفارا…
لكن الصدى وحده أجابني.

توارى الحلم في غبار الخيبات، واختصروا الوطن في أغنية “نشوان”.
وبقينا نحن القلّة التي لم تتقن فنّ التراجع نكتب عن الفكرة، نكتب كي لا تموت؛ كأنّ الكتابة مقاومة ضد النسيان.
غير أنّ النسيان، يا جار الله، كان أبرع منّا وأقسى.

رفاقٌ على سرير العناية يحدّقون في سقف الغرف المضيئة كأنهم يبحثون عن معنى الوطن بين الأنابيب العلاجية.
ونحن في المنافي، على أرصفة الانتظار الطويل، نحصي خيباتنا كما يُحصي العاشق رسائل الحبيبة التي لم تعد.
نعيش على فُتات الأمل، وعلى ذاكرة الرفاق الذين مرّوا من هنا ولم يُلوّحوا حتى للغبار.

قالوا: “المناضل لا ينتظر المقابل”.
وكنت أُردّدها بشغف في ربيع 2016 وأنا أعتلي المنصّات مثل من يحمل راية الضوء.
لكنّ الخريف، يا جار الله، أسقط أوراقنا وترك الجذع عارياً أمام الريح.
لم نعد نحمل سوى الفكرة، والفكرة وحدها لا تقي من الجوع ولا من المنافي.

في متاهة البلاد الكبيرة والنخب الصغيرة، تقاسموا أقلامنا، صادروا أصواتنا، وكمّموا أفواهنا بالصمت.
ومع ذلك ما زلنا نصرخ، نحاول أن نُذكّر النسيان ألا يطول.

كنتَ أنتَ، يا جار الله، ضميراً بحجم وطن.
خرجتَ من قرية صغيرة في النادرة يتيم الأب، غنيّاً بالمعنى، لتحمل في صدرك حلم العدالة والمساواة.
تعلّمتَ الحروف على يد الشمس، وتربّيتَ في ظلّ البردوني، ثم خرجتَ إلى المدن تُفتّش عن وطن يشبه القصيدة.
دخلتَ كلية الشرطة لا لتحمل السلاح، بل لتفهم كيف تُبنى الدولة من الداخل، وكيف يمكن للنظام أن يكون خادماً لا سيّداً.

حين دوّى فجر السادس والعشرين من سبتمبر، لم تكن الثورة عندك مجرّد بندقية في الجبال، بل فكرة في العقل وضمير في الصدر، هذا ما قاله رفاقك بلا تحيّز حزبي أو مناطقي.
أسّستَ مع رفاقك الحزب الديمقراطي الثوري، ثم شاركتَ في ميلاد الحزب الاشتراكي اليمني، وأصررتَ على أن تكون الديمقراطية هي التوأم الشرعي للوحدة.
كنتَ تعرف أن الوحدة بلا حرية جسد بلا روح، وأن الدم لا يوحّد كما توحّد الكلمة.

وحين اختلفوا على الحرب، كنتَ صوت العقل الذي يقول:
“لا للحرب”.
لكن في بلادنا، يا جار الله، لا يسمعون إلا صوت الرصاص.

تقدّمتَ إلى منصة المؤتمر، وكلماتك كانت تمشي واثقة كجنود من ضوء.
وفي الجموع التي صفّقت لك، كان قاتلك أيضًا واقفاً؛ خريج جامعة الإيمان، يحمل فتوى بدل العقل، وسلاحاً بدل القلب.
وحين ضغط على الزناد، لم يقتل رجلاً، بل أطلق النار على فكرة عمرها ألف عام: فكرة التعايش.

سقطتَ جسداً، لكنك قُمتَ فكرة.
وما زالوا، يا جار الله، يقتلونك كل يوم؛ كلما وأدوا رأياً، أو أسكتوا صوتاً، أو أقاموا جداراً بين أبناء الوطن الواحد.
هم لم يفهموا أنك لا تُقتل بالرصاص، لأنّ الأفكار لا تُدفن، والضمائر لا تموت.

يا جار الله، نحن اليوم قاب قوسين من النسيان.
نمشي بلا رفاق، بلا مظلّة حزبية جامعة، بلا وهمٍ جميلٍ يعيد ترتيب الفوضى.
لكنّنا نكتب.
نكتب لأنّ الكتابة آخر ما تبقّى من الشجاعة.
نكتب لأنك قلتَ لنا يوماً إنّ الفكرة لا تموت، وإنّ النور وإن خبا سيعود يوماً ليكشف وجوههم جميعاً ويفضح زيفهم.

يا جار الله، كلما تذكّرتك أفيض بالدمع بلا سبب.
سلامٌ عليك أيها المناضل الذي لم يساوم.
وسلامٌ على الحلم الذي أردتَه وطنًا، وعلى الكلمة التي زرعتَها في تربة الدم.
أمّا القتلة، أولئك الذين ظنّوا أنّهم أراحوا الوطن بقتلك، فقد رحلوا إلى مزابل النسيان.
وبقيتَ أنتَ… كما كنتَ دائماً:
ضميراً حيّاً في جسد وطنٍ يحتضر.