“صحيفة الثوري” – كتابات:
معن أحمد قاسم دماج
ثلاثة وستون عامًا مرَّت على ثورة 26 سبتمبر 1962 في شمال اليمن، واثنان وستون عامًا على انطلاق ثورة 14 أكتوبر في جنوبه. وما زالت الثورتان في صلب الصراع السياسي والاجتماعي في اليمن، تمامًا كما هو الحال في تقدير إنجازاتهما وإخفاقاتهما ومصائر الأهداف والوعود التي قُدمت للشعب في الشمال والجنوب.
لعل أول مفارقة يمكن تسجيلها في تعامل اليمنيين مع ثورة سبتمبر، بعد أحد عشر عامًا من سقوط العاصمة صنعاء في يد الحوثيين (وشريكهم علي عبد الله صالح قبل أن يتخلصوا منه لاحقًا)، الذين يُعتبرون الامتداد الطبيعي والثقافي لدولة الإمامة التي أسقطتها ثورة سبتمبر 1962، والعائلات التي كانت تحتكر الحكم والسلطة بدعاوى مذهبية وطائفية وسلالية مختلفة، هي عودة الروح لمعنى ثورة سبتمبر.
فالاحتفاء والاحتفال بذكراها قد ازداد، بعد أن كانت قد تحولت إلى مجرد مناسبة رسمية نمطية، ما عادت تعني للناس شيئًا. بل إن قطاعات شعبية مختلفة كانت تناصبها العداء، بعد أن تحولت على يد نظام صالح إلى وسيلة لتكريس الفروق الاجتماعية، ومبرر لجرائمه وخدمة طبقته المسيطرة.
وها هم الناس يأخذون ذكرى ثورة سبتمبر ويحولونها إلى وسيلة للتعبير عن رفضهم للمشروع الحوثي، ومشروعه السياسي القائم على الهيمنة والتمييز والاستئثار بالسلطة، وتكريس الفروق الطائفية والسلالية والمناطقية، وفرضه بالعنف والقوة المسلحة.
يمكن للمرء أن يسجل لثورة 26 سبتمبر إنجازاتها الاجتماعية والسياسية والتاريخية، وفي مقدمتها إلغاء نظام الإمامة «الكهنوتي القروسطي»، وإعلان أول جمهورية في الجزيرة العربية، والتحولات الاجتماعية الواسعة التي فتحتها أمام الأغلبية الشعبية.
وجدت هذه الأغلبية، عبر التعليم العمومي الذي فتحته الثورة والانخراط في الجيش الوطني الذي أسسته، وسيلة للحراك الاجتماعي وتغيير وضعها الاجتماعي والاقتصادي، والانفتاح على العصر والعالم، بعد أن كانت الإمامة قد حبستها – حسب وصف مؤرخين كثيرين – في القرن الرابع عشر في أحسن الأحوال.
على الرغم من كل الإنجازات والمكاسب، بقيت ثورة 26 سبتمبر عاجزة عن إنجاز اندماج اجتماعي. وكان نظام الإمامة القروسطي والتخلف الاجتماعي والاقتصادي الشامل الذي عاشته اليمن قد حال دون ذلك، وعن تحقيق مواطنة متساوية لجميع اليمنيين.
فتركزت السلطة في المنطقة القبلية الشمالية، وتكرَّس مستويان من المواطنة في مستوى علاقات السلطة والحكم، بقيَا مستمرَّين. حتى إنه، وفي هذا المستوى تحديدًا، يمكن وصف التغيير الذي أحدثته ثورة سبتمبر بأنه نقل السلطة والهيمنة من «النخب الدينية الطائفية» التي كانت تمثلها بعض الأسر (الهاشمية) المتصارعة على الحكم والنفوذ، إلى الزعامات الاجتماعية التي كان يمثلها شيوخ القبائل في المنطقة القبلية الشمالية الزيدية نفسها، بمشاركة قادة العسكر الذين ينتمون إلى نفس المنطقة غالبًا، و«البرجوازية التجارية الناشئة».
صحيح أنه لم يعد هناك أي مانع قانوني أو دستوري يحول دون تمتع جميع المواطنين بالحقوق والفرص المتساوية نفسها؛ إلا أن واقع تكريس التمييز بين المناطق القبلية الشمالية ومناطق ما يُعرف باليمن الأسفل كان هو العبء الأكبر على نفوس وعقول المواطنين.
وعلى الرغم من حقيقة مشاركة البرجوازية التجارية من كل مكان في السلطة والمصالح، ومشاركة رأس البيروقراطية الحكومية التي تنتمي بمعظمها إلى غير المناطق القبلية في السلطة والثروة، إلا أن واقع تحول السلطة والنظام في العشريتين الأخيرتين إلى عصابات مافيوية تحتكر الثروة وتتصارع على التصرف في الريع، يفسر طبيعة الصراع الذي شهدته الطبقة الحاكمة قبل ثورة فبراير، وفي أثنائها، وبعدها.
لذلك كله وسواه، بقيت مسألة تحقيق المواطنة المتساوية وإنهاء «التمركز التاريخي للسلطة» في المنطقة الشمالية في مقدمة أهداف ثورة سبتمبر غير المنجزة، وعلى جدول المهام التاريخية أمام اليمنيين.
إضافة إلى رد الاعتبار لثورة سبتمبر ورموزها ومشروعها في صفوف الشعب اليمني وطبقته الشعبية، نشهد منذ أعوام تحول قدومها إلى مناسبة اجتماعية ووطنية وسياسية كبرى لمعارضة حكم الجماعة الحوثية وإظهار التحدي لها.
وما بدأ قبل سنوات قليلة باحتفالات محدودة في قرى النادرة والسدة – مسقط رأس علي عبد المغني، أحد الضباط الأحرار الصغار الذي تحول إلى رمز من رموز الثورة بعد استشهاده – تحول إلى موجة تكبر من سنة إلى أخرى، ليبلغ ذروته في السنتين الأخيرتين في العاصمة صنعاء ومدن إب وذمار وأغلب الأرياف والمدن الواقعة تحت سيطرة الجماعة الحوثية، ليتحول إلى كابوس يطاردها من عام لعام.
واقع المشاركة الشعبية الواسعة في الاحتفالات الممنوعة من قبل سلطات الحوثي، وإظهار الرموز المعبرة عن ثورة سبتمبر، رغم حملات الاعتقالات الواسعة التي تنفذها أجهزة القمع والمخابرات الحوثية – والتي شملت الآلاف بمن فيهم الأطفال والنساء، وابتدأت العام الماضي قبل أكثر من شهر من ذكرى قيام الثورة، وشملت كل من صرَّح بأنه سيحتفل أو حتى وضع صورة علم البلاد على موقعه في صفحات التواصل الاجتماعي – دون أن تستطيع الحيلولة بين الناس وبين الاحتفال بذكرى الثورة، جعل السلطات الحوثية تنظر للمناسبة باعتبارها إحدى أقوى التحديات التي تواجهها، وعلامة على زيادة انتشار المعارضة لسلطتهم والتحدي العلني لهذه السلطة بين أوساط شعبية متزايدة.
أما في السياق الراهن، فقد فسر البعض حملة اعتقالات حوثية واسعة في عموم اليمن، وإن تركزت أكثر في محافظة إب قبل أكثر من ثلاثة أشهر من ذكرى سبتمبر – رغم وجود تفسيرات وأسباب أخرى – بأنها محاولة حوثية لاستباق الأحداث ونشر الرعب من أجل منع مظاهر الاحتفال بالذكرى. وهو تفسير يجد مؤيداته في الخطاب الإعلامي الذي يسود في وسائل الإعلام الحوثية، رغم تغطيته بالحديث عن مساندة غزة والخطر الإسرائيلي والأمريكي.
أخذ رد الاعتبار الشعبي لثورة 26 سبتمبر طابعًا مثاليًا؛ حيث جرى اعتبارها كلها مثالية وممتازة، وشملت هذه العاطفة حتى مراحل التراجع الذي شهدته هذه الثورة ومحاولة تكريس سلالة حاكمة في سنوات علي عبد الله صالح.
وإذا كان في كل هذا الاحتفاء ما يجد تفسيره بالحنين لأيام النظام السابق والدولة عمومًا قبل تغول «الآفة الحوثية»، وإذا كان فيه تعبيرًا عن الانشداد إلى مبادئ تلك الثورة في الحرية والمساواة وإلغاء الامتيازات بين الطبقات، بل وحتى المكاسب الواقعية التي تحققت بعدها، فإن السبب الأعمق لكل هذه العودة لثورة سبتمبر ورموزها وشعاراتها هو التعبير عن المعارضة وروح العداء لكل ما تمثله الحركة الحوثية، وإظهار ذلك العداء والتحدي – الذي من الأرجح أن يكبر من عام لعام، ومن يوم ليوم – رغم كل خيبات الأمل في أداء السلطات الشرعية والنخب السياسية والثقافية الغارقة في صراعاتها الصغيرة.
• نقلاً عن موقع منظمة: صوت