الكاتب الصيني الإنجليزي “ما جيان” يروي تاريخ حقبة تتابعت وقائعها فيما بطله غائب في أحلامه
“صحيفة الثوري” – ثقافة وفكر:
إبراهيم العريس
ملخص
في العام 2008 أصدر الكاتب الصيني ما جيان روايته الكبرى “غيبوبة بيجنغ” الواقعة في ما يزيد على 600 صفحة، وباتت منذ صدورها تعتبر واحدة من الروايات الرئيسة التي تتناول الحقب الأكثر حداثة من تاريخ الصين، وتحديداً بدءاً من أحداث ميدان تيانانمن عام 1989
قد لا يكون الكاتب الصيني ما جيان، المهاجر منذ سنوات طويلة إلى لندن حاملاً الجنسية البريطانية، أشهر الكتاب الصينيين في الزمن المعاصر، لكنه بالتأكيد، وربما فقط عبر روايته الكبرى “غيبوبة بيجنغ”، كان الكاتب الذي يلفت نظر القراء النخبويين المهتمين في أنحاء عديدة من العالم بالأوضاع السياسية، وربما الاقتصادية، أيضاً للصين.
وهو لفت انتباه العالم الناطق باللغة الإنجليزية للمرة الأولى، بمجموعته القصصية “أخرج لسانك”، التي ترجمت إلى الإنجليزية عام 2006. وتدور أحداث هذه القصص في التيبت البلد المحتل من الصين، الذي يشغل الأحداث العالمية بين الحين والآخر من منطلق معاد للصين يحاول دائماً الوقوف إلى جانب التيبت ومأساة شعبها، ممثلاً بزعيمها الروحي في المنفى الدالاي لاما، مما وسم تلك المنطقة من العالم بطابع أخلاقي جعل من الصين رمز الشر المطلق ومن التيبت رمز الطهارة المطلقة.
ومع ذلك، من أبرز سمات قصص ما جيان عنها الاستنكاف عن تصوير الثقافة التيبتية التقليدية بصورة مثالية، بل تصويرها على أنها قاسية وغير إنسانية في كثير من الأحيان، ومن هنا ما أشار إليه النقاد من أن “القصص تصور سفاح القربى عبر الأجيال، والاعتداء الجنسي الروتيني، والاغتصاب الطقسي”. علماً بأن الكتاب منع في الصين وظاهرياً ليس لأسباب سياسية، بل باعتباره “كتاباً مبتذلاً وفاحشاً يشوه صورة مواطنينا التيبتيين”.
الوعي الغائب
وكان ما جيان قد أصدر في عام 2001 نصوصاً مجموعة في كتاب تتناول مذكراته عن رحلاته، بعنوان “الغبار الأحمر: طريق عبر الصين”. وهي رحلات في المناطق النائية من الصين بين عامي 1983 – 1986، قام بها كمتشرد عاطل عن العمل هيبي السمات بشعره الأشعث الطويل، وفاز الكتاب يومها بجائزة توماس كوك لأدب الرحلات.
غير أنه كان على ما جيان أن ينتظر العقد الأول من القرن الجديد لينطلق عالمياً بروايته الكبرى “غيبوبة بيجنغ” (2008) الواقعة في ما يزيد على 600 صفحة، وباتت منذ صدورها تعتبر واحدة من الروايات الرئيسة التي تتناول الحقب الأكثر حداثة من تاريخ الصين، وتحديداً بدءاً من أحداث ميدان تيانانمن عام 1989. وهي ترويها من وجهة نظر شخصية “داي وي” الخيالية – التي لن تلبث أن تعتبر أنا / آخر لما جيان نفسه، بطبيعة الحال.
وكان داي واي أحد المشاركين في الأحداث، لكنه سرعان ما دخل في غيبوبة ستدوم ما لا يقل عن 10 سنوات، نتيجة للعنف الذي رافق الاحتجاجات. تماماً على غرار الكاتب نفسه بالنسبة إلى المشاركة في أحداث تيانانمن، ثم على خطاه ولكن بصورة رمزية بالنسبة إلى مسألة الغياب عن الوعي التي من الواضح أنها ليست هنا سوى كناية ذات دلالة على ما أعقب الأحداث نفسها من تأثيرات في الشعب الصيني. وربما كذلك على الكاتب ومجمل أبناء جيله، الجيل الذي “خلال غيبوبته” حدث في الصين كل ما حدث لها منذ ذلك الحين.

فخ عنوانه تيانانمن
في “غيبوبة بيجنغ” يجسد الراوي الغائب عن الوعي نوعاً من القدرة على التذكر في مقابل انتفاء القدرة على الفعل، وهي بالطبع حال بطلها الذي كان كحال الملايين من شبان الصين واسع الأحلام مليئاً بالآمال حين شارك في انتفاضة، ها هو الآن يتذكرها في تفاصيل التفاصيل، وهو بين النوم والموت راقداً في تلك الغيبوبة التي لا يتردد الكاتب في أن يصفها اليوم بأنها غيبوبة سعيدة.
ففي النهاية يكاد ما جيان يخبرنا اليوم بأن ما يتذكره واي داي ليس على أية حال، أكثر من أحداث كان من المستحيل عليها أن تتطلع إلى أن تكون أكثر من مساع إصلاحية بسيطة. فقط قلة من المشاركين فيها كانوا يعتبرونها ثورة حقيقية ستقلب تلك الدولة / القارة رأساً على عقب، “كان الأمر بالأحرى أقرب لأن يكون احتفالاً شبابياً، نوعاً من وودستوك على الطريقة الصينية، أي من دون مخدرات منتشرة بين الشباب، وربما كان الشباب لا يتطلعون حتى إلى نقض المحرمات الجنسية. كان أقصى ما يتمنونه أن تسمح لهم السلطات بارتداء سراويل الجينز ويتمكنون من شرائها، حتى ممارسة الجنس علناً لم تكن من دواعي تحركهم، كان التحرك أكثر براءة من تحرك شباب وودستوك بكثير”.
وفي هذا السياق يذكر ما جيان أن الملاعب الجامعية كانت لا تزال تغلق عند الـ11 مساء، ومن هنا “سارعوا إلى احتلال ميدان تيانانمن ما إن شعروا أن السلطات تتراخى، وهم أقاموا جمهوريتهم اليوتوبية في الميدان غير متنبهين إلى فخ كان ينصب لهم”.
وانتهت “المعركة” بـ”معجزة”
مهما يكن من أمر هنا، فإن الرواية، في بعدها التاريخي، أو في الأقل في ما يتذكره المناضل الغائب عن الوعي داي واي، ستحقق ولو بصورة مواربة، الغايات التي يبدو أن التحرك نفسه كان في الأصل انطلق لتحقيقها، أو بصورة أو بأخرى، الجانب الاقتصادي منها من منطلق أن ما يفهم في الرواية هو أن النظام عرف كيف يحرر الاقتصاد وإن بحدود، كي يحاصر السياسة.
ففي النهاية وهذا ما يؤكه الكاتب، كان من نتائج ما حدث في تيانانمن أن الحزب الشيوعي قد أدرك أنه فقد مشروعيته التاريخية، وأنه لن يكون قادراً على استعادتها إلا من خلال لبرلة الاقتصاد كي يتيح للجماهير أن تحقق ثراء سريعاً. وهو نجح في هذا بكل تأكيد، إذ إن التحسن العجائبي الذي طرأ على الأحوال المعيشية قد جعل مطالب الإصلاح السياسي تتضاءل حتى ما يشبه الاختفاء شبه التام، “لعل ما لا بد من ملاحظته اليوم وفي كل مكان في الصين تقريباً، هو أن الجيل الحالي من الصينيين يختلف جذرياً عن جيل 1989، أي جيل تيانانمن تحديداً. الجيل الجديد مشلول تماماً بفعل البروباغاندا القائمة على أرقام وحقائق دامغة وليس على أكاذيب حزبية. بمعنى أن الحديث اليوم عن “معجزة صينية” ليس حديثاً خرافياً، بل هو يستند إلى نزعة مادية عامة تطاول كل شرائح الشعب الصيني، حتى وإن كان في إمكاننا أن نعتبرها النتاج الطبيعي لسياسة “الطفل الواحد” التي دفعت الأجيال السابقة ثمنها” كما يؤكد ما جيان اليوم، في روايته، ولكن كذلك في ما يقوله من حول روايته وهو في لندن محاطاً بزوجته الإنجليزية، وهي مترجمة رواياته عادة، وأولاده الأربعة.
نقلاً عن: إندبندنت عربية