آخر الأخبار

spot_img

المكسيكية غارسيادييغو تستولي على ماركيز ومحفوظ

 “صحيفة الثوري” – ثقافة وفكر:

إبراهيم العريس

حققت كاتبة السيناريو المكسيكية المعروفة باث آليسيا دييغوغارسيا ثلاثة أفلام عن ثلاث روايات واحدة للكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز “ليس للكولونيل من يكاتبه”، واثنتان للمصري نجيب محفوظ، “بداية ونهاية” و”زقاق المدق”، كانت جميعها علامات مهمة عن علاقة السينما بالأعمال السردية
من بين القواسم المشتركة العديدة التي جمعت بين الكاتبين الكبيرين الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز والمصري نجيب محفوظ، إلى جانب كونهما من أكثر الأدباء العالميين شعبية وشهرة بين الفائزين بجائزة نوبل، انتماؤهما إلى بلدين هما القمة في عالمهما الروائي، واهتمامهما بالسينما ليس كهواية فحسب، بل كمهنة حقيقية أيضاً، عدا عن فشل السينما إلى حد ما في بلد كل منهما على حدة، في أفلمة أعمال كل منهما الروائية الأساس، كون المكسيك، لا كولومبيا بالنسبة إلى الأول، أو مصر بالنسبة إلى الثاني، البلد الذي كان الأكثر عدلاً في التعامل، ولو القليل، مع أدب كل منهما.

واللافت أن هذا العدل إنما تحقق بالنسبة إلى فيلمين حققا عن روايتين لا أكثر اقتباساً من محفوظ، وفيلم واحد حقق حتى الآن، في المكسيك عن رواية لماركيز. واللافت حقاً أن الأفلام الثلاثة حتى وإن كانت تحمل اسم المخرج المعروف أرثورو ريبشتين كمنتج، فإن اثنين منها فقط من إخراجه بينما اكتفى بإنتاج الثالث.

غير أن الأهم من ذلك هو أن الأفلام الثلاثة والتي حققت بين نهايات القرن الماضي وبدايات هذا الذي يليه، تحمل توقيع كاتبة السيناريو المكسيكية بدورها، المعروفة باث آليسيا غارسيادييغو، رفيقة ربشتاين في العمل والحياة، والتي كتبت معظم السيناريوهات الأخرى التي أفلمها هذا المخرج الذي أبدع بدوره في الأفلام الثلاثة المقتبسة عن الكاتبين الكبيرين، إلى درجة أن كلاً من هذين اعتبر تحقيقه الأفلام إنجازاً يمكن امتداحه إلى حد كبير. أما ربشتاين نفسه فهو لم يخف أبداً أن الفضل في ذلك إنما يعود إلى غارسيادييغو، التي عرفت كيف تقدم على تلك المشاريع من منظور بدا في نهاية الأمر ملائماً تماماً، ويمكن احتذاؤه في عملية الاقتباس السينمائي لنوع معين من الروايات.

أسلوب خاص في الكتابة

والأفلام الثلاثة التي نتحدث عنها هنا هي “بداية ونهاية” و”زقاق المدق” عن روايتي نجيب محفوظ المعروفتين، وبالطبع “ليس للكولونيل من يكاتبه” عن واحدة من أجمل روايات ماركيز. ولعل ما يمكن الاشارة إليه أول الأمر هنا هو أن عمل غارسيادييغو على تلك الاقتباسات الثلاثة يدرس حالياً في عدد من معاهد السينما في بعض أنحاء أميركا اللاتينية. والكاتبة نفسها على أية حال، كثيراً ما تحدثت عن أسلوبها في تحويل هذه النصوص الروائية الثلاثة إلى حكايات مرئية في عملية انتقال خلاق وبسيط من الكلمة إلى الصورة، مركزة على أن النصوص نفسها أتاحت لها هنا ما لا تتيحه عادة الروايات الأكثر صعوبة وجوانية وهندسة معمارية لكل من الكاتبين، اللذين تقول إنها قرأت معظم أعمال كل منهما وأعجبت بها كدافع أول للاشتغال على البعد البصري الغني في كل منهما، وكان ذلك بالنسبة إليها دافعها الأول للعمل عليها كما كان الحاجز الذي منعها من الدنو في نوع أصعب من روايات كل منهما.

ونستعيد هنا على أية حال ما كتبته وقالته غارسيادييغو لمناسبة العرض الأول لفيلم “ليس للكولونيل من يكاتبه” خلال عام 1999، ضمن دورة ذلك العام لمهرجان كان السينمائي في الجنوب الفرنسي، حيث افتتحت كلامها بتأكيد بدا حينها غريباً بل حتى هجومياً بعض الشيء، إذ قالت في مفتتح الكلام “لقد كانت رواية “ليس للكولونيل من يكاتبه” روايتي. كانت ملكي بقدر ما كانت ملك غارسيا ماركيز. كانت ملكي بقدر ما كانت ملك كل الذين قرأوها. كانت جزءاً من إرثي الشخصي والحميم كما كانت جزءاً من إرث كل قرائها، وذلك لأن رواية ماركيز هذه هي واحدة من تلك الروايات التي تتسلل إلى أعماق الروح، وتتموضع في ركن خاص بها داخل الذاكرة، وينتهي بها الأمر إلى أن تصبح جزءاً من روح وجسد أولئك الذين يقرأونها، بالتالي ينطرح السؤال الأساسي: كيف ننقل إلى الشاشة رواية ماركيز الكلاسيكية هذه؟ كيف نمكن السينما من تجسيدها بينما نعرف أنها سبق أن تجسدت وعاشت لدى قرائها؟”.

كاتبة السيناريو المكسيكية ثلاثة باث آليسيا دييغوغارسيا (فيسبوك)

إما أنا وإما هو

بالنسبة إلى الكاتبة كان التحدي كبيراً بل رادعاً. ومن هنا قرأتها وأعادت قراءتها من جديد. ومن جديد أحست نفسها أسيرة لكل تلك الآمال المحطمة والأحلام المؤجلة دائماً بالنسبة إلى كولونيل المناطق الاستوائية، الذي يأمل دائماً إلى حدود الغرق في اليأس.

“ومن جديد عدت لأجد نفسي أسيرة لقلم ماركيز وإيقاع لغته”، تقول لتضيف “لكن الأمر انتهى بي لأن أتصدى للتحدي. أدركت أن ما علي فعله هو الاستحواذ تماماً على الرواية. استملاكها. انتزاعها من كاتبها. بكل جرأة أدركت أن السينما لا تتحمل الملكية المزدوجة فإما أنا وإما هو. هو سيد الكتابة وواحد من آلهة اللغة. أما أنا فإنني سينمائية”. ومن هنا قررت الكاتبة أول ما قررت، إذ وصلت إلى هذه الفكرة أن عليها أن تموضع الرواية في بلدها المكسيك بل حتى في منطقتها فيراكروز وسط روائح وعطور كانت تملأ حياة تلك الطفلة التي كانتها هي نفسها في تلك المنطقة. المنطقة الواقعة بين قرى تحيط بأنهار سنوات الـ40. أي العالم الذي كانت جدتها تحدثها عنه كعالم عادي مألوف راحت تحس به، كما حال الرواية متغلغلاً في أعماقها نفسها. وفي النهاية، حين أحست الكاتبة أنها “استولت” على الرواية وبدأت تشعر أن الكولونيل وزوجته يتكلمان لغتها الخاصة وبصوتها ولكنتها الخاصين، بدأت تكتب السيناريو. وكانت النتيجة كما قالت إنها شعرت وهي تكتب أنها لم يسبق لها في حياتها أن كتبت بمثل ذلك الهدوء والطأنينة والبساطة. “وعلى عكس ما يحدث عادة، لم أشعر هذه المرة أن علي أن أناضل ضد الحكاية، بل شعرت أنني منقادة معها بكل بساطة تماماً كما حال المركب التي تدخل المرفأ النهري إنما من دون أن تكون حاملة معها الرسالة التي ينتظرها الكولونيل. فهذه الحكاية بدت لي متكاملة في حد ذاتها وليست في حاجة إلى ما هو من خارجها. بالتالي شعرتها طوال الوقت حكاية طبيعية أنيقة إلى حد الكمال فكتبتها دفعة واحدة بكل سعادة وأكاد أقول وأنا مغمضة العينين دون تخطيط مسبق، دون تمهيد موجه كتبتها بسرعة وبقدر من الهوس. وما إن انتهيت من ذلك ذات فجر وأعدت قراءة ما كتبت حتى اكتشفت وأنا أكاد أكون ذاهلة أن ما كتبته إنما كان حكاية حب. حكاية حب كان غارسيا ماركيز مزجها بآمال خائبة وبصراعات بين الديكة. حكاية حب تركها لنا مخبوءة هناك في ثنايا روايته”.

وتؤكد الكاتبة أنها إنما اكتشفت تلك الحكاية دون أن تتنبه أول الأمر لذلك، دون أن تفترضه مسبقاً، دون أن تبحث عنه أو تسعى إليه. وأنها عندما أدركت ذلك، أحست بلذة مذاق ذلك الحب الذي أخفاه الكاتب بين ثنايا سطوره قائماً من البداية إلى النهاية بين الحبيبين العجوزين اللذين أعيتهما الحياة، فقاوما ذلك الإعياء بأمل لا يموت مصنوع من حب لا يموت.

تعليق من نجيب محفوظ

والحقيقة أن ما كتبته غارسيادييغو بصدد عملها على سيناريو “ليس للكولونيل من يكاتبه” يبدو لنا متطابقاً إلى حد ما مع ما قاله لنا أستاذنا نجيب محفوظ ذات سهرة قاهرية مبكرة في حضور جمال الغيطاني ورجاء النقاش ويوسف القعيد، حين كان أول من حدثنا عن اشتغال الكاتبة نفسها على السيناريو الخاص بروايته “بداية ونهاية” الذي كانت كتبته قبل سيناريو رواية ماركيز بستة أعوام وحدثته عنه يوم التقته في القاهرة حين زارته وأهدته نسخاً من الفيلمين المكسيكيين المقتبسين من روايتيه، وأهدانا هو نسختين منهما ممتدحا خصوصاً عملها على السيناريوهين، معتبراً أن الشغل الأساس هنا كان شغلاً على السيناريو، وملمحاً بأن من شأنه لو كان صاحب سلطة في هذا المجال أن يطالب بأن تدرس طريقة باث آليسيا غارسيادييغو في العمل على كل هذه الاقتباسات، في معاهد السينما عندنا “ما يضيف حقاً، كثيراً إلى سينمانا ويحول كاتب السيناريو من تقني مجتهد إلى مبدع حقيقي”. وهو تعليق سُرت به الكاتبة ورفيق حياتها المخرج ريبشتاين حين التقيناهما ذات دورة من مهرجان كان بعد ذلك بأعوام، ونقلنا إليهما تعليق الكاتب الكبير فترحمنا عليه معاً.

المصدر: اندبندنت عربية