صحيفة الثوري- كتابات:
د. نجيب الورافي
مجانية التعليم في مدارس الدولة وجامعاتها منصوص عليها قانونيًا ودستوريًا، فمن حق كل يمني أن يتعلم من الروضة حتى الشهادة الثانوية مجانًا، والأمر نفسه بالنسبة للجامعة؛ فمن حق أي يمني اجتاز شروط القبول أن يدرس أي تخصص علمي يرغب فيه وفي أي كلية تناسبه.
حسنًا، إلى هنا والأمر سليم، ونصوص قوانين التعليم كما هي، فما الذي حدث؟
حدث أن أعطى القانون أيضًا الحق في فتح الباب على مصراعيه للتعليم الأهلي أو الخاص، موجة الخصخصة التي أوهمونا أنها مشروع وطني يرفد البناء والتنمية… والحقيقة أنه لم يرفد سوى جيوب صُنّاعه والمستفيدين منه، ولم يهوِ معول الخصخصة على مجال كما هوى على رأس التعليم والصحة، وهما المجالان اللذان لا تزال ترفض خصخصتهما والعبث بهما أكثر دول العالم رأسمالية.
وهاتِ يا خصخصة عشوائية غير مرشدة ولا خاضعة لقانون يحكمها، ولا لسلطات رقابية…
على طريقة نكتة النسبة والتناسب بين عدد المعسكرات والمستشفيات — ستة معسكرات مقابل مستشفى حكومي واحد — في بعض عواصم المحافظات صارت هناك مئة مدرسة أهلية مقابل مدرسة حكومية واحدة.
في الثمانينيات مثلًا، كانت مدارس البنين في إب ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا، ولا وجود لمدرسة خاصة واحدة بتاتًا. وفي تعز مثلًا، لم يكن هناك سوى مدرسة أهلية واحدة، هي “الشهيد محمد علي عثمان”… الآن على من أراد أن يحسب النسبة والتناسب في نمو المدارس هنا وهناك.
كثيرون جدًا، ليسوا مثلي، رافضون البتة جعل التعليم خاضعًا لسوق العرض والطلب، وتحويل مجاله إلى ما يشبه سوق خضار وبقالة، والمعلم والقائد التربوي والأكاديمي إلى “عطّار مدكّن” شديد الأثرة واللؤم.
صار لمن شاء الحق في فتح مدرسة وكلية وجامعة، وصرنا لا نفرّق بين أسماء هذه المدارس لكثرتها عن أسماء المياه المعدنية والعصائر والأجبان، وبلغت رسوم الطفل في مدارس بعض المدن ما يساوي 1000 دولار، أي 250 ألف ريال يمني.
في المقابل، ماتت المدرسة الحكومية، قُتلت قتلًا غير مُعلن؛ قُتل استحداث بنائها، قُتلت العملية التعليمية والمُخرج التعليمي برمّته، وقبل هذا وذاك قُتل المعلم اليمني المقهور والمغلوب على أمره بحرمانه من أسباب الحياة منذ قُطع راتبه لعشر سنوات…
خوت مدارس الدولة من طلابها، من صخبها اليومي، من نشاطها العلمي الدؤوب؛ صار الدوام حصتين أو ثلاثًا على الأكثر.
وجد أبناء الفقراء — وهم الغالبية العظمى من الشعب اليمني — أنفسهم في منفى الإهمال والجهل، أُوصد الباب أمام تطلعاتهم وآمالهم بمستقبلٍ طريقه العلم والمعرفة…
ومن رحم ربي من هؤلاء، ممن يتسنى له المواكبة والوصول إلى الجامعة، سيواجه الطالب الفقير بحقيقة أن الجامعة هي أيضًا فخ مالي مُتربّص بطريقه. لا نقصد هنا الجامعات الأهلية، بل الجامعات الوطنية، المفترض أن التعليم فيها بالمجان، ولا يخضع لأي معايير مالية غير معايير القبول.
الجامعة اليمنية منذ تأسيسها فتحت القبول فيها بنظام واحد، هو النظام العام المجاني، من أعلى التخصصات كالطب والهندسة، وكان المعيار هو التنافس، ثم ما لبثت أن تدحرجت الجامعة في هاوية الخصخصة إياها؛ ابتكروا نظام قبول برسوم مخففة، هو “النظام الموازي”، ولا ميزة تفصله سوى أنه بفلوس. ثم تلاه الآن “النفقة الخاصة”، المعيار فيه الرسوم، ولا يخضع لاختبارات قبول.
ليت الأمر حاليًا وقف عند هذا الحد؛ فما يُفترض أنه الأصل، التعليم المجاني العام، تم قتله حاليًا، ليحيا فقط تعليم “الموازي” و”النفقة الخاصة”… منتهى المهزلة والأثرة والجشع!
كيف يتجاسر أساطين القبول في جامعاتنا بإلغاء نظام التعليم المجاني ليتم القبول في كليات بأكملها ومراكز تعليمية وأقسام علمية بنظامي “الموازي” و”النفقة الخاصة” فقط، وحصريًا على الميسورين؟! كأن ابن الفقير يروح “يدور له بقرة تلحسه”…
أمر مؤسف يثير الغصّة حين ترى حملات الترويج للتنسيق والقبول في الجامعات الوطنية تتصدر واجهات منصات التواصل الاجتماعي. تشعر حيال ذلك كأنما هو تسابق على سلعة في سوق العرض والطلب. المعرفة الحقة تُطلب وتُشد إليها الرحال وتُضرب إليها أكباد الإبل، وأنتم تعرضونها كأنها سلعة بائرة خاضعة لمزاد مفتوح…
لو لم يكن هناك عائد مالي، هل كنتم ستتجشمون هذا الابتذال التسويقي لما هو أسمى وأعلى مثالية مما عداه؟
ليس سلعة: إنه العلم لذاته، والعلم لا يحتاج إلى تسويق.
لا تتوقف خصخصة التعليم الجامعي وإعدام مجانيته عند جناية حرمان الفقير وصناعة تفاوت فَجّ يُؤذي ويُخلّ، وإنما يُخلّ بالتعليم والعمل الأكاديمي في جامعاتنا ذاتها…
أليس العائد المالي، الدراسة بالرسوم، هو ما حوّل كليات الطب إلى “فقّاسة” موزعة على جامعات حديثة نائية؟
وما خلق اختلالات جمّة في معايير القبول كخفض معدل الثانوية العامة؟ ناهيك عن الخلل في نسبية القبول المتوازن بين التخصصات العلمية والإنسانية، والقبول المبني على خطط احتياج مدروسة.
وما نتج عنه من إقفار مريع لكليات العلوم والآداب والعلوم الإنسانية، وتكديس مخرج التعليم الجامعي باتجاه وظيفي مهني سيؤول للكساد يومًا ما، وتُهمل تمامًا علوم التفكير العقلي ومعارفه…