آخر الأخبار

spot_img

كيف لنا ان ننجو!

“صحيفة الثوري” – ثقافة وفكر:

ريان الشيباني

“تعلم أبي أن يشاهد التلفزيون بحيادية يقف لها شعر المرء. كان يبدو أنه يشاهد شيئا آخر، شيئا غير مرئي لبقية الفانين.

– لكن هل تشاهد ما نشاهده؟ كانت أمي تسأله.

ولم يكن يجاوبها. لم يجاوبها قط”. يقول الكاتب الإسباني خوان خوسيه مياس في إحدى قصصه.

يبدو الاقتباس هنا، كما لو أنه مأخوذًا من عدسة مكبرة لكاميرا عائلية. عائل استطاعت الحياة الأسرية ترويضه، إلى درجة اتخاذه الصمت دفاعًا أخيرًا ضد السلطة المنزلية لزوجته.

يشيد أحمد عبداللطيف مترجم المجموعة القصصية الأشياء تنادينا، محل الاقتباس، باتخاذ خوسيه مياس منحىً مغايرًا لسرده، وسط طوفان الأدب الذي أُنتج بفعل الحرب الأهلية الإسبانية.

لكن؛ أليس الصمت أو التجاهل نهاية مأساوية لسكان مجتمعات الخراب. أتذكر هنا أصدقاء توقفوا عن نشاطهم العام، لصالح حياة هي على النقيض من كل ذلك.

كان العام 2018، وأنا أعمل موظفًا إنسانيًا، عندما علمتُ من زميل وصديق أن الصديق نون المقرب والمشترك لكلينا زار صنعاء.

ولأنه- أي نون- وثيق الصلة بحياتي الثقافية والفكرية، ألححتُ في طلب الاتصال به، فوجدتُ هاتفهُ محولًا.

عدتُ لملاحقة زميلي الذي بدا أنه استطاع الوصول لعنوان الإقامة المؤقت لصديقنا، وبعد ثلاثة أيام وصلني- في النهاية- شعورًا غريبًا بالتهرب من لقائي.

أفصحتُ بمشاعري هذه لزميلي، فأكدها لي.. اتخذ صديقنا نون لنفسه مسارًا تطهّريًا صارمًا. وهو حاليًا في مهمة- تبدو شاقة- لرمي ماضيه بكل ثقله ورائه. ولمعرفته بي، وبتشيعي الراسخ والمتطرف لأفكاري، كان تجاهله لاتصالاتي، واحدة من طرقه للتعافي من ماضٍ أنتج لنا كل هذا الوضع الكارثي.

لكن يبقى السؤال، هل كل الأصدقاء هجروا اهتماماتهم لمجابهة ما سيمليه وضع البلد المستقبلي من تيهٍ وضياع؟ يأتي على بالي هنا، مثالًا آخر مبكرًا لحالة الصديق نون. إنه الصديق جيم، الألمعي، والذي يعيش على صورته البراقة كمثقف.

أتحدث هنا عن نماذج تأسيسية، ساهمتْ في تكريسنا لحياة الكتب والموسيقى. هذا الأخير أيضًا اختفى باكرًا؛ أي بعد العام 2011، مفضلًا الاغتراب على اعتناق هذه الوطنية الزائفة.

سألتُ زائرُا أخيرًا له، كيف يعيش، فقال على الأسلوب القديم ذاته؛ الموسيقى والكتب والسينما، لكن بجدار حماية سميك لا يمكن اختراقه.

في السنوات الأخيرة، ازداد صمت الأصدقاء. بعضه مشفوعًا بسياق طويل من تطورات الأزمة وآلة قمعها، وآخر بالمحاولات الحثيثة لمؤسسات تعمل لتحييد الناس عن السياسة، ومن ثم اتخاذهم أتباعًا ومريدين.

في سياق الحياة الطبيعية، تعتبر الرواقية الصمت أكثر أمانًا من الكلام، لذلك تدعو إلى التزام الضرورة فيه أو الاقتضاب، “فلا يمكننا سماع كلمة الله وسط كل هذا الضجيج”! لكن الرواقي الشهير سينيكا الذي خاض حروبًا وعاصر أزمات يرى في الصمت درسًا يتم تعلمه في خضم المعاناة الضاربة للحياة.

لكن كيف لنا أن ننجو وهناك شيء اسمه فريدريك نيتشه. إذ يرى في الكلام جانب التعافي، فكل الحقائق التي يتم كتمها تصير لتصبح سامة، “الصمت أسوء؛ إذن!”.

ريان