آخر الأخبار

spot_img

ثقافة: نصف الليمونة في باب الثلاجة

“صحيفة الثوري” – ثقافة وفكر:

عبير اليوسفي

أكتب هذه النشرة في يوم مولدي الثلاثاء. وأنا ألتفتُ إلى نصف الليمونة القابعة في باب الثلاجة، تلك التي نضعها بيقين العودة إليها ثم ننساها. عن طول انتظارها البارد قبل أن يجففها العطب، شيء يشبه الحياة المؤجلة التي نتذكرها متأخراً.

تبدو لي الآن أنها مبدأ متكرر نمارسه باستمرار، ترك الأشياء ناقصة في المنتصف دون إنجاز، ذلك الهامش الذي ينتظر منا التفاتة. لكن هل نلتفت حقًا؟ أم أننا نمر بجانبه كما نمر بجانب المنسية في الثلاجة، نرى أثر الزمن عليها، ثم نغلق الباب سريعًا وكأننا لم نرَ شيئًا؟ هذا ما نفعله مع كل الشؤون المؤجلة، غض البصر عنها، تجنب التفكير فيها. وهذا ما أفعله في كل مرة أبدأ بشيء ولا أنهيه، أتفنن في مراكمة نُسخ ناقصة في زوايا غير مرئية حتى لا أتذكرها بتأنيب ضمير.

يخطر في بالي أن المشكلة ليست في التسويف وحده، بل في وهم الامتداد اللامتناهي للوقت، في اعتقادنا أن النصف الآخر الذي لم نكمله ينتظرنا كما هو دون أن يتغير. لكن في الحقيقة الأشياء الناقصة تفقد بريقها الأول، القراءات التي أجلناها، الأفلام التي لم نكملها، المشاريع المنسية، لقاءات الأصدقاء المؤجلة، حتى نحن أنفسنا نصبح آخرين نتغير، نفقد الاهتمام بما كنا نريده. تقول سيمون بوفوار: “كل منا يحزن في نفسه لغياب نفسه السابقة.” وهذا ما يحدث لا نفقد فقط الأشياء التي أجلناها، بل نفقد أيضًا الشخص الذي كنا عليه عندما أردناها.

في كل ميلاد، أفكر دائماً في الزمن، كيف يمر بنا دون أن نشعر، كيف نألف مراحله حتى لا ننتبه إلى تحولاته إلا حين نلتفت فجأة لنرى الفارق. أشتاق أحياناً لعمر مضى، ليس كزمن مثالي، بل كإحساس بالحياة بطريقة معينة، بعفوية كانت ممكنة آنذاك. لكني أرتاح للنضج الذي منحتني اياه الحياة، النضج المكتسب بعد تجارب متراكمة.

في رواية “نعاس”تتأمل البطلة فكرة التقدم في العمر لا بوصفها خسارة فحسب، بل كتحول يحمل وجوهًا متعددة. تعترف بأنه ليس بالأمر المفرح دائمًا، لكنه في المقابل يبسط بعض الأشياء. الأمر كله لا يتعلق بالزمن بقدر ما يتعلق بطريقة استقبالنا له بفلسفة كل منا في النظر إلى ما يأخذه العمر وما يمنحه. وبرأيي، تكمن الراحة في هذا الإدراك أن الزمن لا يأخذ منا فقط، بل يمنحنا أيضًا منظورًا أكثر رحابة، وأكثر تقبلًا لما يتغير.

ومع تقدم الزمن نألف جيداً شعور الانتظار، نعيشه منذ طفولتنا دون أن ندرك أنه يرافقنا طوال الحياة. ننتظر أن نكبر، ننتظر أن نفهم، ننتظر أن نحصل على إجابات، ننتظر أن نصل إلى مكانٍ ما، ثم ننتظر أن نستقر فيه. ننتظر الحب، ننتظر الفرص، ننتظر أن نشعر بالجاهزية لنفعل ما نريده حقًا. ثم يصبح الانتظار مجرد فخّ نعلق فيه، وهمٌ يمنحنا شعورًا زائفًا بالسيطرة على الزمن.

أستعيد مقطعًا من الطنطورية لرضوى عاشور، حين تحدثت عن الانتظار قائلة إننا جميعًا نعرفه، أن ننتظر الساعة، يومًا أو يومين، شهرًا أو سنة… وربما طالت المدة، لكنك تظل تنتظر. كم يمكن أن ننتظر؟

نعيش في انتظار مستمر للحظة المناسبة، للفكرة الأكثر نضجًا، للوقت الذي نشعر فيه بالاستعداد التام. لكن متى يحدث ذلك؟ هل أعياد الميلاد الأيام المناسبة لقول هذا هو الوقت المناسب لعيش كل ما أجلناه؟ أم أن الزمن يمضي ونحن لا نزال نتوقع قدومه؟

في هذا اليوم، أعصف ذهني لأتذكر حياة على الهامش انشغلت عن الالتفات لها، أتذكر كل ما تركته في المنتصف، كل ما أجلته وانتظرته ليوم أكثر هدوءًا، أو عمرٍ أكثر رزانة. يوم ظننت أنه قادم، لكنه لم يأتِ أبدًا. وربما الحياة كما هي الآن، بكل فوضاها ونقصها وامتلائها، هي كل ما لدينا. النضج لا يعني فقط إحصاء ما فقدناه وما كسبناه، بل في اختراع طرق جديدة للعيش، في التصالح مع فكرة أن الأشياء لا تكتمل بالضرورة، لكننا نمنحها معنى في محاولتنا الاستمرار.

كل عام، أسعى للحفاظ على مساحة هدوء لا يزعزعها قلق، ونمط حياة صحي لا يخلو من جرعات الكافيين، ووزن مستقر لا يشغلني تغييره. هذه المرة، قررت إضافة هدنة مع كل الأشياء المتغيرة الخارجة عن السيطرة، كخصلة بيضاء ظهرت فجأة لا أعرف متى وكيف نهضت من العدم لكنها موجودة، تتكاثر كشواهد صامتة على استمرارنا في الحياة. وأبقى في محاولة تذكر نصف الليمونة المتروك قبل أن يذبل، شيء كمحاولة العيش دون تأجيل، كما لو أن كل يوم هو الأخير في الثلاجة.

أختم بهذه العبارة التي انتزعتها من الأعمال الشعرية لبسام حجار:

الأيّام التي تحبّها فقط هي التي تدخل في حساب عمرك. والباقي تنساه. ترميه جانباً، وراءك، تهمله. لا تفكّر فيه. ❝

المصدر: نشرة ظلال الثقافية