“صحيفة الثوري” – كتابات:
سام أبواصبع
كبرت في غيابك أربعين عامًا دفعة واحدة، كأنني شخت فجأة، كأن الزمن لم يعد يتقن لعبة التمهل معي. لا شيء يجيد استعادة ملامحك كما تفعل الذاكرة، تلك التي تأخذني إليك كلما حاولت أن أنسى أنك بعيد. أبحث عنك في تفاصيل الأشياء، في ارتباك الصباحات التي لا تبدأ إلا بنقص، في المساءات التي لا تكتمل لأنك لم تعد فيها.
كان آسرًا أن أجلس إليك، أن أراك عندما تتجلى فيك روح السارد، حين تأخذ بيد الحكاية كأنك تقودها إلى مصيرها، تمنحها صوتًا، إيقاعًا، سحرًا. لم تكن الحكايات تحكى، بل كانت تولد منك، تخرج إلى العالم كأنها لم تكن موجودة من قبل، كأنك نبي الكلمات، تخلق المعنى، تصوغ الدهشة، تزرع فينا عطشًا لا يروى.
كنت سيد الكلام، سيد الصمت أيضًا، تفهم جيدًا متى تصمت لتدع الصمت يتم سحره. وكنا نحن، كالعطشى في صحراء ممتدة، نشرب من نبعك دون أن نرتوي. كنت لا تروي حكايات، بل تفتح أبوابًا على عوالم كاملة، تخلقها وتتركنا فيها دون دليل، نكتشفها كما لو أننا نكتشف أنفسنا للمرة الأولى.
وها أنا اليوم، أعيد تركيب صورتك من ذاكرة مبعثرة. أجمع خطاك من ظلال الأماكن التي مررت بها، أبحث عن صوتك في أصداء الأشياء، في الحكايات التي لم تولد بعد، في فصول ناقصة، في مسودات لم تكتمل. كنت دائمًا الحكاية التي لا تحتاج إلى بداية، ولا تعرف نهاية. الحكاية التي تظل معلقة في القلب، كأنها تنتظر من يكملها، لكنها لا تكتمل.
أبي، كم تشبه الغياب، وكم يشبهك الحضور حين تتسلل إلي فجأة في منتصف صمت، أو في أول حكاية أسمعها منك دون أن ترويها.