صحيفة الثوري – ثقافة
رغم ابتعادها كلياً عن الأضواء منذ سنوات وتوقّفها عن إحياء حفلات، لا يزال صوت فيروز الاستثنائي، باعتراف خبراء عالميين، يرافق ملايين الأشخاص عبر العالم، هي التي غنّت للحب والوطن والحرية والقيم. تجاوزت شهرة فيروز، المرأة النحيلة البنية والباردة الملامح، واسمها الحقيقي نهاد حداد، حدود البلد الصغير وتأتي اليوم ذكرى ميلادها التسعون 21 تشرين الثاني 1934م، جذبت معجبين من كل أنحاء العالم، وتعدّ من آخر جيل الكبار في العصر الذهبي للموسيقى العربية في القرن العشرين.
في لبنان، رفضت فيروز أن تُجرّ إلى خصومات سياسية أو دينية لا سيما خلال سنوات الحرب الأهلية (1975-1990)، وتصدّرت أغنياتها الإذاعات المتناحرة على جانبي خطوط القتال. بالنسبة إلى كثيرين، يعدّ الاستماع إلى أغاني فيروز بمثابة طقس يومي شبيه بالصلاة وبالنسبة إليها، فالغناء بحدّ ذاته فعل صلاة.
في مقابلة مع صحيفة “نيويورك تايمز” في أيار/مايو 1999، قالت بعد حفلة أحيتها في مدينة لاس فيغاس الأميركية رداً على سؤال حول جديتها المفرطة على المسرح، “إذا نظرتم إلى وجهي عندما أغني، سترون وكأنني غير موجودة”. وتابعت “أرى الفن على أنه صلاة ، لست موجودة في كنيسة، لكنني أشعر كما لو أنني فيها، وفي هذه الأجواء لا يمكنني الضحك”.
وكانت باستمرار شبه جامدة على المسرح، فيما حركة واحدة أو ابتسامة خجولة منها كفيلة بإشعال حماسة جمهورها. ولدت فيروز في قرية الدبية في منطقة الشوف الجبلية في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 1934، لوالد يعمل في مطبعة ووالدة اهتمت برعاية الأسرة المكونة من أربعة أولاد. وانتقلت العائلة في وقت لاحق للإقامة في حي زقاق البلاط في بيروت.
في نهاية الأربعينات، اكتشف المؤلف الموسيقي محمد فيلفل الذي كان يبحث عن أصوات جميلة للانضام إلى كورس الإذاعة اللبنانية، موهبة فيروز. وضمّها إلى الكونسرفاتوار لتتعلّم أصول الموسيقى والغناء . وأُعجب المدير الموسيقي للإذاعة آنذاك حليم الرومي بجمال صوتها واقترح عليها اسمها الفني فيروز.
خفيفة الظل
في كواليس الإذاعة، تعرّفت فيروز على عاصي ومنصور الرحباني، المؤلفين الموسيقيين اللذين عرفا في وقت لاحق، خصوصا معها، شهرة واسعة، وارتبط فنهما بشكل جذري بلبنان، فبات جزءا لا يتجزأ من تراثه. وتعاونت فيروز مع الأخوين رحباني اعتباراً من مطلع الخمسينيات.
وأثمر ذلك مجموعة واسعة من الأعمال الغنائية والمسرحية والأفلام السينمائية التي جمعت بين الألحان الشرقية والفولكلور اللبناني والأنغام الغربية. ويحافظ عدد كبير منها على نضارته رغم مرور الزمن.
وغنّت فيروز لشعراء كبار، من الأخطل الصغير إلى سعيد عقل الذي لقبها ب”سفيرة لبنان الى النجوم”، مروراً بجبران خليل جبران والياس أبو شبكة. كما لحّن لها عبد الوهاب وفيلمون وهبه وزكي ناصيف.
وشكلت مع الأخوين الرحباني علامة فارقة في مهرجانات بعلبك الشهيرة ولُقبت بـ”عمود بعلبك السابع”.
في منتصف الخمسينات، تزوجت فيروز من عاصي الرحباني وأنجبا أربعة أولاد، هم زياد، وليال التي توفيت عام 1987 بعد سنة من وفاة والدها، وهلي وريما.
قالوا عنها
يكتب عنها في ذكرى ميلادها التسعين وصفها الكاتب / ريكاردو كرم
رافقتنا أغنياتها في كل مكان – في المدرسة، وفي السهرات الكشفية، وفي الأعياد والمناسبات الكبرى، ولاحقاً من خلال حماستنا الوطنية ووعينا السياسي، لقد كانت فيروز، مرآة قصص حبنا، ورفيقة القمر في ليالينا، وكان لها الصدى الأكبر في قلوبنا حينما وُلد أبناؤنا حاملين معهم نبضاً جديداً وأملاً مضيئاً.
أغنياتها لم تكن مجرد لحن، بل كانت صرخة تتردد في كل زاوية. في السلم والحرب، في الفرح والحزن، في الانتصار والانكسار، في العزّ والفقر، في العناق والفراق، في ساعات الإيمان وأوقات التخلّي.
“اليوم، ونحن نحتفل بعيدها، نعلم أنّ السنوات لم تفلح في المساس بصوتها. ٨٩ أو ٩٠ عاماً ، شو همّ؟ العمر رقمٌ لا معنى له”
“تعا تا نتخبى من درب الأعمار
و إذا هني كبروا ونحنا بقينا صغار
و سألونا وين كنتوا و ليش ما كبرتوا إنتو
منقلّن نسينا” …
فيروز تظلّ كما هي، الصوت الذي لا يشيخ، لأنّها ببساطة روح هذا الوطن كما الأوطان العربية الأصيلة، وعلامة عصيّة على ثقل الزمن. كلّما تصدح أغنياتها، نعود إلى تلك اللحظات العميقة في حياتنا، نتذكر التاريخ، نعيد رسم أفق الأمل، ونمضي إلى الأمام متحّدين.
ولأنّ فيروز ليست فقط الأيقونة والأسطورة وسيّدة الغناء وشاعرة الصوت، بل هي وطن، وحضارة، وشعب، وقصة نضال لا يتوقف.
تحمل أغنيتها الشادي في طياتها ذكرى أرضٍ سُلبت، ووعدٍ جائر، وصوتًا ضدّ الظلم الذي لا ينتهي إنها مرآة لواقعنا المستمر وفي كل مرة نسمعها، نعيش اللحظات المؤلمة صحيح، لكن نتذكّر أنّ “خلف الليل العاتي الأمواج ، يعلو سراج” و أنّه “من دمّ الشوارع ومن شُهدا الأرض اللي ماتوا للأرض ووجوهُن منسيِّة، جايي الحرّية” وأنّه “ومن يوم اللي تكَوَّن يا وطني الموج كنّا سوى، وليوم اللي بيعتق يا وطني الغيم رح نبقى سوى”
حكاية وطن
سفيرة الفنانين العرب لها العديد من الأغنيات التي مازالت حاضرة إلى الآن، فبجانب أغنية “زهرة المدائن” التي طرحتها بعد زيارتها إلى القدس عام 1964، بالتزامن مع زيارة البابا بولس السادس إلى فلسطين، هناك العديد من الأعمال المهمة التي عبرت فيها عن الأوضاع الصعبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني.
“أنت من ديارنا من شذاها يا نسيم الليل تخطر، حاملًا عبير أرض هواها في حنين القلب يزهر، أنت من حقولنا يا رسول من ربوع الخير عندنا، كيف حال بيتنا هل تقول أم هجرت أنت مثلنا، يا غريب الديار”، هذا جانب من كلمات أغنية فيروز التي تحمل اسم “راجعون” والتي لحنها وكتبها الأخوان رحباني، وتلك الأغنية جاءت لتعبر عن قصة سيدة قابلتها جارة القمر في القدس وحكت لها عن معاناتها بعد النكبة وقدمت لها مزهرية كهدية لتعبر لها عن حبها، فأثرت هذه الواقعة في فيروز، وقرر الأخوان رحباني تجسيدها بكلماتهما وألحانهما الرشيقة
“ردني الى بلادي”
على مدى عقود، شكّلت أغاني فيروز صلة وصل بين اللبنانيين. خلال الحرب الأهلية، رفضت الغناء في لبنان لتجنّب أن تُحسب على منطقة دون أخرى، فيما بلدها ساحة صراع بين قوى طائفية مدعومة من قوى خارجية. لكنها أقامت حفلات في الخارج مثيرة الحنين والتأثر في نفوس اللبنانيين الفارين إلى عواصم العالم مع أغان مثل “بحبك يا لبنان” و”ردني إلى بلادي” و”لبيروت” التي ترافق منذ الرابع من آب/أغسطس، تاريخ وقوع الانفجار المروع في العاصمة، مقاطع فيديو عن الكارثة تبثها محطات التلفزة المحلية.
كما غنّت لدمشق ومكة وسواها، وللأوطان والثورات والشعوب. قلّدها ملك الأردن الراحل حسين ثلاثة أوسمة. وتبث الإذاعات في سوريا والأردن وسواها من الدول العربية أغانيها بكثافة حتى اليوم.