آخر الأخبار

spot_img

‏صراع الرؤى: السعودية في مواجهة إيران

 الثوري – ترجمات:

كريم سجادبور* – مجلة الشؤون الخارجية الاميركية 

هناك العديدُ من الصراعات في الشرق الأوسط، التي قد تعيد تشكيل النظام السياسي العالمي، اكثرها أهمية هو المعركةُ بين القوتين المهيمنتين في منطقة الشرق الأوسط: المملكةُ العربيةُ السعودية والجمهوريةُ الإسلاميةُ الإيرانية.

إن الخط الفاصل الرئيسي بينهما اليوم أيديولوجي، ويتركز على الرؤى الاستراتيجية لكل منهما – رؤية المملكة العربية السعودية 2030 ورؤيةُ إيران 1979.

كل رؤية منهما تملي السياسات الداخلية في كل بلد، فضلا عن كيفية التعامل مع الآخرين في الخارج.

كان ينظر إلى التنافس بين البلدين في السابق، باعتباره صراعا عرقيا وطائفيا بين السعوديين العرب السنة في الغالب، والإيرانيين الفرس الشيعة.

تسيطر إيران والسعودية، وكلاهما عملاقان استبداديان في مجال الطاقة، على ما يقرب من ثلث احتياطيات النفط في العالم وخمس الغاز الطبيعي، ولكن يقودهما رجلان مختلفان تماما يملكان خططًا مختلفة تماما.

يريدُ وليُ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، البالغُ من العمر 39 عاما، والمعروف باسم MBS، يريدُ تحديثَ الدولة التي طالما أغرقت نفسها في العقيدة الإسلامية وإبعادها عن اعتمادها على إنتاج الوقود الأحفوري، وقد أنشأ رؤية 2030 من اجل تحقيق هاتين الغايتين.

في المقابل، كرس الزعيمُ الإيراني المرشد الأعلى علي خامنئي البالغ من العمر 85 عاما والذي يحكم منذ فترة طويلة، نفسَه وبلادَه للمبادئ الإيديولوجية التي حملتها الثورة الإسلامية الإيرانية.

لا يطلق خامنئي على خطته أسم (رؤية 1979) ولكن لا يزال من الممكن استخدام هذا الاسم لوصفها، لأن رؤيتَه تدور حول الحفاظ على التزام الثورة الإيرانية القاسي بالحكم الديني.

 

إن هذين البلدين متنافسان تاريخيا بأهداف لا يمكن التوفيقُ بينها. 

 

تستهدف رؤيةُ 2030 التطلعات الوطنية، في حين تستغلُ رؤيةُ 1979 المظالم الوطنية. 

تسعى رؤية 2030 إلى تحالفٍ أمني مع الولايات المتحدة والتطبيعِ مع إسرائيل؛ وتستند رؤيةُ 1979 إلى مقاومة الولايات المتحدة والقضاء على اسرائيل.

رؤيةُ 2030 مدفوعةٌ بالتحرر الاجتماعي؛ في حين أن رؤية 1979 ترتكز على القمع الاجتماعي.

من غير المرجح أن تتقاتل إيرانُ والسعودية بشكل مباشر على الرغم من عدم الثقة المتبادلة الهائلة بينهما، بعد ان توصلت طهران والرياض عام 2023 إلى اتفاق لتطبيع العلاقات، مما أدى إلى خفض التوترات الثنائية، ولهذا فإن التحديَ الأعظم الذي يواجهه البلدان الآن لا يكمن في مواجهة بعضِهما البعض، ولكن في معالجة صراعاتهما الداخلية، وهنا، يمتلك كل طرف الكثيرَ من الأمور التي يتعين عليه التعامل معها

إن مشاكلَ الجمهورية الإسلامية الإيرانية واضحة. فالبلاد تشبه الاتحاد السوفييتي في مرحلته المتأخرة، بعد ان أصبحت مفلسة اقتصاديا وأيديولوجيا وتعتمد على الوحشية من أجل بقائها، لكنها أصبحت أقوى من أي وقت مضى في تاريخِها الحديث خارجَ حدودها، إذ يهيمن الوكلاءُ والميليشياتُ المدعومةُ من إيران على أربع دول عربية فاشلة هي العراق ولبنان وسوريا واليمن فضلا عن غزة.

كما تتمتع طهران بتأثير كبير على العديد من قضايا الأمن العالمي، بما في ذلك الانتشارُ النووي، وحربُ روسيا في أوكرانيا، والأمنُ السيبراني، وحملاتُ التضليل، واستخدامُ موارد الطاقة كسلاح.

في المقابل، التحدياتُ التي تواجهها السعودية ليست واضحة في الوقت الحالي، حيث يبدو أن محمد بن سلمان يتمتع بدعم واسع النطاق جراء تحرير مجتمعه من القيود الاجتماعية، وبفضل اقتصاد بلاده القوي، ومع ذلك، فإن نجاح رؤية 2030 سوفَ يعتمدُ حتمًا على الجدوى الاقتصادية لمشاريعها العملاقة، وسوف تواجه تحديات من توقعاتِ الرأي العام منها، وتقلبِ أسعار النفط، والفساد، والقمع، وسوف يتم اختبارها هذا النجاح من قبل القوى الرجعية الساخطة، حيث مازالت السعودية موطنًا لعدد كبير من السكان الإسلاميين المحافظين بشدة، الذين يشعرون بعدم الرضا عن خيارات محمد بن سلمان، ويمكن أن يخلقوا مشاكل كبرى لحكومته، وبالتالي، فإن رؤية 2030 هي مسعى محفوف بالمخاطر لكنه عالي العائدات.

ليس من الواضح ما إذا كانت أي من الدولتين ستنجح في الحفاظ على رؤيتها. ما هو واضح هو أن مصير الرؤيتين – واحدة مدفوعة بالتغيير، والأخرى قامت على المقاومة – سيؤدي إلى عواقبَ تمتدُ إلى ما هو أبعد من أي من البلدين.

 

محصلة هاتين الرؤيتين لن تشكل ما إذا كان الشرق الأوسط سيصبح أكثر ازدهارا واستقرارا فحسب، بل وما إذا كان العالمُ كلُه كذلك أيضا.

 

إرث عام 1979

يحب المسؤولون السعوديون أن يرووا قصة عن بلادهم وإيران. ففي أواخر ستينيات القرن العشرين، كتب الشاه محمد رضا بهلوي، حاكمُ إيران التحديثي، إلى الملك السعودي فيصل قائلا إن من الواجب على فيصل أن يحررَ المملكةَ من قيودها الاجتماعية، وإلا فقد يُطاح به.

رفض الملكُ بشدة هذا الرأي، واقترح في رده أن بهلوي ــ برؤيته العلمانية للمجتمع على غرار المجتمعات الاوربية ــ هو الذي كان في الواقع معرضاً لخطر فقدان العرش.

وكتب فيصل رداً على رسالة الشاه قائلا: “جلالتك، أود أن أذكرك بأنك لست شاه فرنسا”، مضيفاً: “إن تسعين بالمئة من سكانك هم من المسلمين.. من فضلك لا تنس ذلك”.

 

لقد أثبت الوقت ان الملك كان على حق، فقد أطاح المحتجون ببهلوي في الثورة الإيرانية عام 1979، وحولوا البلاد من ملكية متحالفة مع الولايات المتحدة إلى دولة دينية معادية لأميركا. 

 

وعلى الرغم من معارضة تحالف متنوع من القوى للشاه، فإن الرجل الذي برز كزعيم للثورة، آية الله روح الله الخميني البالغ من العمر 76 عاماً انذاك، كان يعتقد أن النفوذَ السياسي والثقافي الغربي يشكل تهديداً وجودياً لإيران، والحضارة الإسلامية، وقال في احدى خطبه: “كل الأشياء التي استخدمُوها لإفساد شبابنا كانت هدايا من الغرب. وكانت خطتُهم تتلخصُ في ابتكار الوسائلَ لإفساد رجالنا ونسائنا وضمان انحرافهم، وبالتالي منعهم من التطور البشري”.

 

توفي الخميني بعد عقد من الزمان، لكن خليفتَه خامنئي أبقى رؤيتَه حية.

 

كان عام 1979 أيضاً عاماً محورياً بالنسبة للمملكة العربية السعودية، فقد استولى المتطرفون الإسلاميون، الذين اعتقدوا أن العائلة المالكة السعودية انحرفت عن مسار الإسلام الحقيقي، استولوا على المسجد الحرام في مكة، مما ساعد في إغراق النظام الملكي في أزمة وجودية.

وخوفاً من أن يواجهوا مصيرا كمصير الشاه، تخلت الحكومة السعودية عن جهود التحديث، وأعادت توجيه مواردها الهائلة إلى القوى الرجعية في الداخل والخارج.

 

لقد عملت السعودية على تمكين رجال الدين الأصوليين من ممارسة السيطرة على التعليم والقضاء، ووسعت نطاق شرطة الأخلاق، وأغلقت دور السينما، وفرضت الفصل الصارم بين الجنسين في المدارسِ والأماكنِ العامة. 

 

وقد عملت الرياض على تصدير هذه السياسات، جزئياً بتشجيع من الولايات المتحدة لمواجهة الغزو السوفييتي لأفغانستان، عبر قيام المملكة بإنفاق عشرات المليارات من الدولارات، لتمويل آلاف المساجد فضلاً عن الجماعات الجهادية التي أصبحت أساسًا لحركة طالبان وتنظيم القاعدة.

لقد استمرت هذه السياسات لمدة عشرين عاما، ولكن هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001 على الولايات المتحدة والتفجيرات القاتلة التي نفذها تنظيم القاعدة في الرياض عام 2003 فرضت تصحيح المسار.

فقد كشف الهجومان عن حقيقة قاسية: وهي أن الأصوليةَ الإسلاميةَ، التي كانت تعتبرُ ذات يوم من أدوات المملكة، قد تحولت إلى تهديدٍ عميق لاستقرارها.

وعلى هذا فقد حاولت الحكومة السعودية إيقاف دعمها المالي للتطرف الخارجي، فضلاً عن الشروع في حملة مكلفة لمكافحة التطرف على المستوى المحلي.

قال الأمير محمد بن نايف، الذي كان آنذاك أحد المهندسين الرئيسيين لاستراتيجية مكافحة الإرهاب السعودية عام 2007: “نحاول تحويلَ كلَ معتقل، من شاب يريد الموت إلى شاب يريد الحياة”.

 

ولكن لم تبدأ المملكةُ تحولَها الدولي الأوسع، إلا بعد أكثر من عقد من الزمان، عندما بدأ محمد بن سلمان صعودَه إلى السلطة. 

 

باعتباره واحدا من اكثر من اثني عشر ابناً وابنة ولدوا للملك سلمان، رأى محمد بن سلمان قيادة سعودية متقدمة في السن، تعتمد بشكل مفرط على النفط، وتبدو منفصلة عن مجتمعها الشاب.

كان قلقًا من أن بلادَه تتخلف عن قطر والإمارات، اللتين كانتا تعملان على أن تصبحا مركزين للنقل والتجارة، وتمتلكان نفوذًا كبيرًا في الأعمال التجارية والترفيه والرياضة والإعلام.

وردًا على ذلك، أطلق محمد بن سلمان اجندة خاصة للمملكة، تسمى رؤية 2030، والتي تهدف إلى فتح البلاد اقتصاديًا، والتخلص من القيود الإسلامية، والتنويع بعيدًا عن النفط، وبناء هوية وطنية.

 

تركز الوثيقة التأسيسية للرؤية على ثلاثة موضوعات – “مجتمعٌ نابض بالحياة، واقتصادٌ مزدهر، وأمةٌ طموحة” – وقد أدى تطبيق الرؤية حتى الآن إلى تحولات سياسية حقيقية. 

 

حصلت النساءُ السعوديات بدءًا من عام 2018، على الحق في القيادة والسفر دون إذن من ولي الأمر الذكر، وزاد وجودُهن في القوى العاملة في البلاد بشكل كبير، بما في ذلك في المناصب الحكومية العليا.

وبدأت الحكومةُ في استثمار عشرات المليارات من الدولارات، في خطط لبناء مراكز البيانات والذكاء الاصطناعي، وأنواع أخرى من التكنولوجيا. كما عززت بشكل كبير الترفيهَ للشباب – حيث أن ما يقرب من ثلثي السعوديين تحت سن الثلاثين – من خلال سباقات الفورمولا 1، وبطولات المصارعة، وتجنيدِ نجومِ كرة القدم مثل كريستيانو رونالدو، وتم تقديم قواعد سياحية جديدة لتشجيع الزوار الأجانب على استكشاف البلاد وتحقيق الإيرادات.

كانت نتائجُ هذه الجهودِ متباينةً حتى الان، فقد كانت المملكةُ من بين أسرع الاقتصادات الكبرى نموا في العالم في السنوات العديدة الماضية، مع نمو كبير في القطاعات غير النفطية.

ومع ذلك، لا تزال أرقام النمو مرتبطة في كثير من الأحيان بسعر النفط، وعلى نحو مماثل، قدرت وزارة الاستثمار السعودية أن الاستثمار الأجنبي المباشر زاد بنسبة تزيد عن 150٪ من عام 2017 إلى عام 2023، ومع ذلك، ابلغني أحدُ رجال الأعمال السعوديين أن “الاستثمارَ الأجنبي المباشر غير النفطي لم يحقق اي تقدم”.

 

رجلان ورؤيتان

تعكس رؤية 1979 ورؤية 2030 شخصيتي خامنئي ومحمد بن سلمان.

يُقال إن الرجلين هما أقوى شخصين في الشرق الأوسط اليوم، لكن يملكان رؤى وأساليبَ قيادةٍ مختلفة تمامًا – الأول يعتمد على مظالم تاريخية، والثاني يعتمد على طموحات حديثة، وتتضح هذه الاختلافات في عدائهما لبعضهما البعض.

فقد أطلق محمد بن سلمان على خامنئي لقبَ “هتلر الشرق الأوسط الجديد”، وسخر خامنئي من محمد بن سلمان باعتباره “مجرمًا” ستؤدي “قلة خبرته” إلى سقوط السعودية.

يتمتع كل منهما بخلفية فريدة. وُلد خامنئي في عائلة دينية ذاتِ دخل متواضع، وتلقى تعليمه في مدرسة شيعية، وقضى سنوات تكوينه كمحرض ثوري واخرى كسجين سياسي، ولو لم تحدثْ الثورةُ الإيرانية، لكان مقدرًا له أن يعيش حياةَ رجلِ دين متواضع، ولكن بدلاً من ذلك، قفز إلى السلطة، فأصبح رئيساً لإيران عام 1981 ومرشداً أعلى عام 1989.

وكان فُرط يقظته، الذي ولد من انعدام الأمن العميق في داخله، أحد مفاتيح بقاءه.

 

لم ينحرف خامنئي عن المُثل الثورية لمعلمه الخميني، على الرغم من السخط الشعبي الواسع النطاق داخل ايران وحالة الأزمة الخارجية شبه الدائمة. 

 

ولا تزال الركائزُ الإيديولوجيةُ لرؤية إيران 1979 كما كانت آنذاك: “الموت لأمريكا، والموت لإسرائيل”، كما يهتف أنصار خامنئي في كثير من الأحيان، والحجابُ الإلزامي للنساء، الذي أشار إليه الخميني ذات يوم باسم “علم الثورة الإسلامية”.

في المقابل، ولد محمد بن سلمان وسط ثروة هائلة، باعتباره ابن أحد أغنى رجال العالم، الملك سلمان بن عبد العزيز.

وعلى الرغم من أن محمد بن سلمان ولد بعد عام 1979، إلا أنه قال إن التطرفَ الذي انبثق في ذلك العام “اختطف” الإسلام كدين.

يطمحُ ولي العهد السعودي إلى تحقيق الحداثة لشعبه وليس الاستشهاد، فقد أعلن ذات مرة: “لن نضيع ثلاثين عامًا من حياتنا في التعامل مع الأفكار المتطرفة. سندمرها اليوم”.. وقد أدى هذا الحسمُ في بعض الأحيان إلى سوء تقدير خطير، بما في ذلك جريمةُ القتلِ الوحشيةِ للصحفي جمال خاشقجي عام 2018 والحربُ المدمرةُ في اليمن.

ومع ذلك، احتفظ ولي العهد بثقةِ جزء كبير من المجتمع السعودي الشاب، وزخمِ رؤية 2030.

إن أحد أهم الاختلافات بين الرؤية السعودية والرؤية الإيرانية يتعلق بالحريات الاجتماعية.

لطالما نظر الإيرانيون إلى جيرانهم من دول الخليج العربية باستخفاف، فقد أشار الخميني ذات مرة إلى آل سعود باعتبارهم “أتباعِ رعاة الإبل في الرياض والبرابرةِ في نجد، وهم أكثرُ أفرادِ الأسرة البشرية شراسةً ووحشية”، وندد بهم في وصيته الأخيرة التي كتبها قبل رحيله.

ربما وجد الإيرانيون بعض الراحة في امتلاكهم حريات اجتماعية أكثر من السعوديين، لكن هذا لم يعد هو الحال. فالموسيقيون الأكثرُ شهرة في العالم يؤدون بانتظام مقطوعاتهم ووصلاتهم الغنائية والموسيقية في السعودية، بما في ذلك كبار المطربين الإيرانيين، الذين تُحظر موسيقاهم في وطنهم، ويحصل عشراتُ الملايين من الإيرانيين على أخبارهم من قناة إيران الدولية، وهي قناة إخبارية فضائية باللغة الفارسية مدعومةٌ من السعودية.

كما أعادت المملكة فتحَ دور السينما في عام 2018 بعد حظر دام خمسة وثلاثين عامًا، وأصبحت تطبيقاتُ وسائل التواصل الاجتماعي متاحةً على نطاق واسع، واستقبلت أعدادا أكبر من السياح مقارنة بأي وقت مضى، في حين ضاعفت إيران من ممارساتها المتمثلة في احتجاز الأجانب كرهائن وهم غالبا من حاملي الجنسية الإيرانية المزدوجة.

 

إن الفارق بين الخططتين واضح خصوصًا عندما يتعلق الأمر بمعاملة النساء. فعلى الرغم من أن النساء السعوديات، اللواتي كن مخفيات عن الحياة العامة ذات يوم، ما زلن متأخرات في مؤشرات المساواة، إلا ان التقدم الذي تمكن من احرازه في عهد محمد بن سلمان حقيقي وهام. 

 

النساء الإيرانيات أفضل تعليماً من نظرائهن من الرجال، وكثيراً ما وصلن إلى قمة مسارهن الوظيفي إلا أنهن من بين القلائل في العالم اللاتي يواجهن اليوم قيوداً أكثر مما واجهته جداتُهن قبل خمسة عقود من الزمان، قبل الثورة الإسلامية.

وقد ادى هذا الخلل إلى اندلاع احتجاجات “المرأة والحياة والحرية” في إيران خلال عامي 2022 و2023، والتي بدأت شرارتها بسبب وفاة مهسا أميني، وهي امرأة تبلغ من العمر 22 عاماً، أثناء احتجازها لدى الشرطة بعد ان اعتقلت بتهمة ارتداء الحجاب بشكل غير لائق.

 

القوة الخام

الفارق الأكثر دراماتيكية في النتائج بين رؤية 2030 ورؤية 1979 يكمن في التأثير على اقتصاد كل دولة.

فقد استخدمت المملكة إنتاجها من الطاقة لتغذية رؤيتها الاستراتيجية، ونتيجة لهذا، أصبح السعوديون أكثر ثراءً من نظرائهم الإيرانيين بكل المقاييس تقريبًا، فالناتج المحلي الإجمالي السعودي يزيد على ضعف الناتج المحلي الإجمالي الإيراني على الرغم من أن عدد سكان السعودية أقل من نصف عدد سكان إيران، ومعدل التضخم السنوي في إيران من بين أعلى المعدلات في العالم باستمرار، بينما يبلغ في السعودية نحو 2%، وتمتلك الرياض أكثر من 450 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي، أي نحو 20 ضعف ما تمتلكه طهران.

 

هناك أسباب عديدة للأداء الاقتصادي المروع الذي حققته إيران، ولكنها جميعاً تتصل برؤية 1979. 

 

فقد خضعت إيران بسبب عدائها للغرب لعقوبات شديدة أدت إلى شلل احتياطياتها من العملات الأجنبية وجعلت من الصعب عليها بيع سلعتيها الرئيسيتين، النفط والغاز.

ففي عام 1978، أي قبل عام من الثورة، كانت إيران تنتج نحو ستة ملايين برميل من النفط يومياً، وكان نحو خمسة ملايين برميل منها للتصدير إلى الخارج ولكن منذ الثورة، بلغ متوسط الإنتاج والصادرات الإيرانية أقل من نصف هذه الكميات، ورغم أن إيران تمتلك ثاني أكبر احتياطيات من الغاز الطبيعي في العالم بعد روسيا، فإنها لا تتواجد ضمن قائمة أكبر خمسة عشر دولة مصدرة للنفط في العالم.

وسعت طهران إلى استخدام موارد الطاقة التي تمتلكها كسلاح، ففي أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، ذكّر المسؤولون الإيرانيون مراراً وتكراراً أوروبا التي تعاني من نقص الطاقة بأن “الشتاء قادم” في محاولة لتهديد زعماء القارة وحملهم على الرضوخ لمطالب طهران النووية.

 

ولكن أعظم مأساة في رؤية 1979 بالنسبة لإيران كانت إهدار مواردها البشرية وليس مواردها الطبيعية. 

 

ففي عام 2014، زعم وزير العلوم والتكنولوجيا الإيراني أن هجرة الأدمغة السنوية في البلاد ــ والتي تقدر بنحو 150 ألف شخص يغادرون البلاد سنويا ــ تكلف الاقتصاد 150 مليار دولار سنويا، وهو ما يزيد على أربعة أمثال عائدات النفط اعتبارا من عام 2023.

في المقابل يعود معظم الطلاب السعوديين الذين يدرسون في الخارج والذين يقدر عددهم بنحو 70 ألف طالب إلى وطنهم، عند انتهاء دراستهم.

غالبًا ما تنظر رؤية 1979 إلى العقول المتعلمة في البلاد باعتبارها تهديدا، لكن رؤية 2030 تعاملهم باعتبارهم أصولا.

 

لقد أنفقت السعودية مبالغ طائلة على خطط طموحة لتحديث اقتصادها، مثل إدخال المدن الذكية، ويشمل ذلك مشروع نيوم، الذي يركز على إنشاء منطقة حضرية كبيرة في الصحراء يمكن أن تحول المملكة إلى مركز تكنولوجي عالمي وتدفع التنوع الاقتصادي. 

 

وعلى الرغم من أن كلا الحكومتين قامتا ببناء دولة مراقبة قوية، فإن ابتكارات طهران التكنولوجية واستثماراتها تم توظيفها في الغالب لقمع شعبها، وتسليح وكلائها، ومهاجمة أعدائها.

 

النظام مقابل الفوضى

من الواضح أن رؤية السعودية 2030 تفوقت على رؤية إيران 1979 في تعزيز الرفاهية الاقتصادية ورضا المواطنين، ولكن عندما يتعلق الأمر بالنفوذ الدولي، فإن الأمر مختلف تمامًا.

إن الفراغات الإقليمية في القوة وعدم الاستقرار المزمن في الشرق الأوسط تشكل تهديدات لرؤية 2030، ومع ذلك كانت نعمة بالنسبة لرؤية 1979.

هذا الاختلاف منطقي، رؤية 2030 تعتمد على البناء، في حين أن رؤية 1979 راضية بالتدمير، وبالتالي فإن الفراغات في القوة وعدم الاستقرار الناجمين عن الحرب الأهلية اللبنانية، وحرب العراق، والربيع العربي في عام 2011، كلُها عواملُ عززت الطموحات الإيرانية، كما أدى النفوذ الإيراني بدوره إلى تعميق الفوضى والاضطراب في جميع أنحاء العالم العربي.

وعلى الرغم من أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن السعودية تتمتع بدعم شعبي أكبر بكثير من إيران في العالم العربي، بما في ذلك في البلدان التي تمارس فيها إيران أكبر قدر من النفوذ، فإن جهود الرياض لمواجهة طموحات طهران – باستخدام القوة الصلبة أو القوة الناعمة أو الاستقطاب المالي – فشلت إلى حد كبير.

كانت إيران والسعودية على مدى العقدين الماضيين، على جانبين متعارضين في أكثر الصراعات دموية في الشرق الأوسط. لقد دعمت الدولتان مجموعات متنافسة في العراق وسوريا واليمن، وكذلك في لبنان والأراضي الفلسطينية. وسادت القوة الصلبة المدعومة من إيران في كل من هذه الساحات.

اختارت السعودية عدم المشاركة أو هُزمت إلى حد كبير، وكانت أكثر هذه الهزائم إذلالاً في اليمن حيث انفقت الرياض بين عامي 2015 و 2019، أكثر من 200 مليار دولار على تدخل عسكري لمواجهة استيلاء الحوثيين المدعومين من إيران على السلطة وساهم هذا التدخل في مقتل عشرات الآلاف من المدنيين، لكنه فشل في إضعاف الجماعة.

واليوم، لم يظل الحوثيون، الذين ترفع شعاراتهم الموت لأميركا وإسرائيل، راسخين في السلطة فحسب، بل تسببوا أيضا في خنق الاقتصاد العالمي، وإبعاد ما يقدر بنحو 200 مليار دولار من التجارة عن البحر الأحمر عن طريق مضايقة السفن (ظاهريا للاحتجاج على حرب إسرائيل في غزة).

في المقابل تستخدم إيران التطرف الإسلامي كأداة باعتبارها الدولة الدينية الوحيدة في الشرق الأوسط، فكل المتطرفين الشيعة تقريبا، من لبنان إلى باكستان، على استعداد للقتال من أجل إيران، وفي الوقت نفسه، يسعى معظم المتطرفين السنة، بما في ذلك تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة في العراق والشام، المعروف أيضا باسم داعش، إلى الإطاحة بالحكومة السعودية على الرغم من أصولها السنية.

 

والواقع أن طهران أثبتت استعدادها وقدرتها على العمل مع الجماعات المتطرفة السنية التي تشترك معها في معارضتها لإسرائيل والولايات المتحدة.

 

فقد أقام زعيم تنظيم القاعدة الحالي، سيف العدل، في إيران لمدة عقدين من الزمان.

كما تشكل إسرائيل واحدة من أكبر نقاط الخلاف الدولية بين البلدين، فرؤية 2030 منفتحة على التطبيع مع إسرائيل، في حين تعارض رؤية 1979 وجود إسرائيل ذاته.

كانت إيران الدولة الوحيدة في العالم التي أشادت صراحة بغزو حماس لإسرائيل في السابع من أكتوبر 2023، وعلى الرغم من أنه لا يزال من غير الواضح إلى أي مدى شاركت طهران في التخطيط للعملية، فإن إيران تمول معظم الميزانية العسكرية لحماس، لذلك قال المسؤولون الأمريكيون إن طهران “متواطئة على نطاق واسع”.

لقد نجح الهجوم في تأخير، وربما تخريب، اتفاقية التطبيع بين السعودية وإسرائيل.

 

الأصدقاء الكبار 

إن الدولتان الأجنبيتان اللتان من المرجح أن تلعبا الدور الأعظم في تحديد مصير هاتين الرؤيتين هما الولايات المتحدة والصين.

فرؤية 2030 تحتاج إلى واشنطن كحليف، ولكن رؤية 1979 تريدها كخصم.

وتعتمد رؤية 2030 على الدعم الأمني الأميركي، في حين لا تستطيع رؤية 1979 البقاء بدون الدعم الاقتصادي الصيني حيث تشير التقديرات إلى أن 90% من صادرات النفط الإيرانية متجهة إلى الصين.

ونظراً لاعتماد إيران الاقتصادي والاستراتيجي على الصين، فإن أي استراتيجية أميركية لمواجهة طموحات طهران النووية والإقليمية ربما تتطلب بعض التعاون مع بكين.

هناك سبب للاعتقاد بأن مثل هذا التعاون ممكن على الرغم من المنافسة العالمية بين بكين وواشنطن فالصين والولايات المتحدة في نهاية المطاف، تشتركان في مصالح ثنائية في المنطقة تتمثل في الاستقرار السياسي والتدفق الحر للتجارة والطاقة، على نقيض الوضع مع روسيا التي تستفيد من عدم الاستقرار الإقليمي والاضطرابات في أسواق النفط.

ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة لديها المزيد من القواسم المشتركة مع السعودية في نهاية المطاف.

ربما يكون الليبراليون الأميركيون مترددين تاريخياً بشأن السعودية، لكن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين كقوة عظمى وغزو روسيا لأوكرانيا في عام 2022 غيرت تصورات واشنطن، فبعد أن كانت المملكة تُرى ذات يوم كشريك يثير الجدل، يُنظر إليها الآن على أنها حليف مرغوب، ومن المرجح أن تظل إمكانية التوصل إلى اتفاق تطبيع تاريخي بين إسرائيل والسعودية تحت مظلة معاهدة دفاعية أميركية سعودية يصادق عليها مجلس الشيوخ طموحاً مميزاً لأي إدارة أميركية مستقبلية، ديمقراطية كانت أو جمهورية.

ولكن في البيئة الحالية، قد تفوق الكُلف السياسية المحلية التي تتحملها المملكة ك نتيجة لاتفاق التطبيع مع إسرائيل فوائد المظلة الأمنية الأميركية.

فقد أظهر استطلاع للرأي العام أجري في نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول 2023 أن 95% من السعوديين يعتقدون أن حماس لم تقتل مدنيين إسرائيليين في السابع من أكتوبر/تشرين الأول؛ ووافق 96% من السعوديين على أن “الدول العربية يجب أن تقطع على الفور جميع الاتصالات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية وأي اتصالات أخرى مع إسرائيل”، وقد أجبرت هذه المشاعر محمد بن سلمان على زيادة مطالبه التفاوضية. فقد أعلن مؤخرا أن الرياض لن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل قبل “إقامة دولة فلسطينية”.

قد يكون محمد بن سلمان مستبدا، لكنه لا يستطيع أن يتحمل عدم حساسية الرأي العام، فالرئيس المصري أنور السادات، بعد كل شيء، كان مستبدا، ولم يمنعه ذلك من التعرض للاغتيال بعد تطبيع العلاقات مع إسرائيل.

 

هناك سبب للاعتقاد بأن السعوديين سوف يعقدون في نهاية المطاف صفقة مع الأميركيين والإسرائيليين.

وعلى الرغم من العلاقات التجارية الواسعة التي تربط المملكة بالصين وصداقتها مع روسيا، فإنها لا تستطيع الاعتماد إلا على الولايات المتحدة لحمايتها من الخصوم الخارجيين، وهي تحتاج إلى مثل هذه الحماية. فقد كشفت الهجمات الإيرانية في سبتمبر/أيلول 2019 على شركة أرامكو السعودية، شركة النفط الوطنية.

 

‏خطر التوقعات

صنفت العديد من مؤشرات الاضطرابات المدنية إيران بين الحكومات الأقل استقرارًا في العالم فقد شهدت البلاد ثلاث انتفاضات وطنية كبرى – في عام 2009 و 2019 و 2022 – خلال السنوات الخمس عشرة الماضية وحدها، والتي دفعت الملايين من المواطنين إلى الشوارع.

 

ومع ذلك، فإن خامنئي هو أحد أطول الحكام المستبدين خدمة في العالم، حيث حكم منذ عام 1989، وقد تحدى النظام باستمرار التوقعات بزواله الوشيك. 

 

يشير التاريخ، ربما بشكل يخالف الحدس، إلى أن الدكتاتوريات الثورية غالبًا ما تكون أكثر ديمومة من الملكيات سريعة التحديث، وكما كتب عالمي السياسة ستيفن ليفيتسكي ولوكان واي، فإن الأنظمة الثورية المولودة من “صراع مستمر وأيديولوجي وعنيف” تميل إلى الاستمرار لأنها تدمر مراكز القوة المستقلة، وتنتج أحزابًا حاكمة متماسكة، وتفرض سيطرة محكمة على قوات الأمن الهائلة.

تنطبق كل هذه العوامل في إيران، مما يساعد في حماية الجمهورية الإسلامية من الانشقاقات النخبوية والانقلابات العسكرية وقد نجح النظام حتى الان في سحق الاحتجاجات الجماهيرية على نحو متواصل.

ويشير الماضي أيضاً إلى أن الانتفاضات الشعبية الناجحة تميل إلى الحدوث ليس في الدول التي تعاني من الحرمان المستمر، كما هو الحال في إيران، بل في البلدان حيث تعمل مستويات المعيشة المحسنة على خلق توقعات مرتفعة بين السكان، وكما كتب المنظر الاجتماعي إريك هوفر: “ليست المعاناة الفعلية، بل طعم الأشياء الأفضل هو الذي يثير الناس للثورة”.

كما يمكن للإصلاحات السياسية أن تفتح الباب أمام التغيير المفاجئ، وهو الأمر الذي تجنبته إيران عمداً، فقد لاحظ مكيافيلي أنه لا يوجد “شيء أكثر خطورة، أو أكثر غموضاً في نجاحه، من تولي زمام المبادرة في إدخال نظام جديد للأشياء”، ولهذا السبب، كان خامنئي، وهو دارس لسقوط الاتحاد السوفييتي، ملتزماً بقوة بالمبادئ الإيديولوجية لثورة 1979، معتقداً أن تخفيفها من شأنه أن يعجل بسقوط الجمهورية الإسلامية.

في الوقت نفسه، قد تكون الحكاية التي تحمل بين سطورها تحذيرا والأكثر قابلية للتطبيق من التاريخ بالنسبة لمحمد بن سلمان هي تجربة شاه إيران، الزعيم التحديثي الذي نفر الدوائر الانتخابية الرئيسية، بما في ذلك رجال الدين، وتجار السوق، والمثقفين، الذين تآمروا لإزاحته عن منصبه ولكن تبقى الدروس المستفادة من سقوط الشاه مختلطة، وكما زعم المؤرخ عباس ميلاني في سيرته الذاتية للشاه، كان بهلوي مستبدًا للغاية عندما لم يكن بحاجة إلى ذلك، ولم يكن مستبدًا بما يكفي عندما كان بحاجة إلى ذلك.

بالنسبة للعديد من النخب السعودية، فإن الخوف الأعظم ليس انتفاضة شعبية جماهيرية مثل الثورة الإيرانية عام 1979، بل مؤامرة داخلية مستهدفة ضد ولي العهد – وهو سيناريو له سابقة تاريخية في المملكة.

فقد قُتل الملك فيصل، وهو ملك آخر من ملوك التحديث، برصاصة على يد ابن أخيه في مارس 1975، وكان الدافع وراء هذا العمل الانتقامي هو وفاة شقيق القاتل، وهو إسلامي قُتل قبل عقد من الزمان تقريبًا أثناء احتجاجه على إدخال فيصل للتلفزيون في المملكة.

لقد ترك محمد بن سلمان بصمته على قيادة البلاد وواجه النخب السياسية والتجارية السعودية أكثر من أي زعيم في تاريخ بلاده، وقلص حجم العائلة المالكة، ويقال إن احتجازه في عام 2017 لمئات من رجال الأعمال السعوديين البارزين في فندق ريتز كارلتون – والذي يطلق عليه “شيخ داون” في الصحف الشعبية الغربية – أدى إلى استرداد أكثر من 100 مليار دولار من الأصول.

 

لكن محمد بن سلمان ربما لا يدرك المخاطر التي تنتظره. 

غالبًا ما يعطي المستبدون الأولوية للولاء على الكفاءة عند تعيين المستشارين لتجنب التحديات الداخلية، مما يخلق غرفة صدى تؤدي إلى نقاط عمياء خطيرة.

كان الشاه على سبيل المثال، في حيرة من الغضب ضده وندم لاحقًا على أنه قد تعرض للتضليل من قبل مساعدين متملقين ابعدوا عنه الحقيقة.

ربما يقع محمد بن سلمان بالفعل في هذا الفخ. لقد أخبرني أحد مستشاري ولي العهد ــ وهو رئيس دولة أوروبية سابق ــ في حديث خاص أن كلما طالت فترة حكم محمد بن سلمان، زادت ثقته في حكمه وقلت حاجته إلى الاستماع إلى النقد البناء.

ويواجه محمد بن سلمان مخاطر أخرى أيضا، فالإصلاحات القضائية الجارية في السعودية لا تزال متخلفة عن الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية (والمعايير الدولية).

إن تدريب جيل جديد من المحامين والقضاة السعوديين العلمانيين عملية أكثر صعوبة من توظيف مستشارين أجانب لتحويل الاقتصاد وبناء مدن المستقبل. كما يشعر العديد من الرجال السعوديين بالاستياء إزاء فقدان سلطتهم على النساء.

وقد يكون هذا التقدم غير المتكافئ ــ الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي السريع دون إصلاح سياسي متزامن ــ مصدرا للاضطرابات أيضا، وكما حذر صمويل هنتنغتون في كتابه “النظام السياسي في المجتمعات المتغيرة”، فإن عدم الاستقرار السياسي ينجم عادة عن “التغيير الاجتماعي السريع والتعبئة السريعة لمجموعات جديدة في السياسة إلى جانب التطور البطيء للمؤسسات السياسية”.

يتمتع محمد بن سلمان حاليًا بالقوة والشعبية على ما يبدو، ورغم أن استطلاعات الرأي العام الموثوقة في المملكة نادرة، فقد أشار أحد استطلاعات الرأي في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 إلى أن أغلبية كبيرة من السعوديين يثقون في حكومتهم.

في المقابل أفاد استطلاع رأي حكومي حديث في إيران أن أكثر من 90% من مواطني البلاد يشعرون بعدم الرضا أو اليأس، وقد أكسب استهداف رجال الأعمال السعوديين البارزين بتهمة الفساد، وتقليص حقوق العائلة المالكة، وسجن رجال الدين الأصوليين، وتقليص دور الشرطة الدينية، ولي العهد بعض الدعم، ولكن محمد بن سلمان قد شن حملة صارمة على أعضاء ما ينبغي أن يكونوا دائرته الانتخابية الطبيعية: الليبراليون السعوديون، بما في ذلك خاشقجي والناشطة في مجال حقوق المرأة لجين الهذلول، وقد يؤدي هذا إلى نتائج عكسية.

يقول محمد اليحيى أحد كبار المسؤولين في وزارة الخارجية السعودية وصديق خاشقجي، بعد مقتل خاشقجي “إن الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي المتسارع معرض لخطر الفشل بشكل كبير دون التحول القانوني والإجرائي الموازي الذي يحدث بنفس الوتيرة والشدة”.

لم يعد مقتل الصحفي يلوح في الأفق داخل السعودية، لكنه لا يزال يشوه سمعة محمد بن سلمان في الغرب.

خارجيًا، فإن أشد منتقديه صخباً، مثل منتقدي الشاه، هم من الليبراليين الغربيين، الذين يشبهه الكثير منهم بالديكتاتور العراقي صدام حسين

قال السناتور الأمريكي بيرني ساندرز، وهو سياسي مستقل، إن قادة المملكة “بلطجية قتلة” وأن النظام “أحد أخطر البلدان على وجه الأرض”، ومع ذلك، داخل المملكة فإن المجموعة الأكثر ترجيحًا لتحدي سلطة محمد بن سلمان في نهاية المطاف ليست الليبراليين الذين يعتقدون أنه غير ديمقراطي، بل الإسلاميون الذين يعتقدون أنه ليبرالي للغاية.

وكما كتب المؤلف ديفيد رونديل، “إذا جاءت حكومة خليفة إلى السلطة عن طريق الاقتراع، فمن المؤكد أنها ستكون نظامًا شعبويًا إسلاميًا… وإذا جاءت حكومة جديدة إلى السلطة من خلال العنف، فمن المرجح أن تكون منظمة جهادية مثل داعش أو القاعدة”.

وعلى الرغم من أن ولي العهد يحاول طي صفحة الأصولية الإسلامية، إلا أنه لم يتمكن من القضاء عليها بالكامل.

يقول الكاتب السعودي علي الشهابي، في إشارة إلى المدرسة الإسلامية الأرثوذكسية المتطرفة في البلاد، إن محمد بن سلمان “وضع الوهابيين في قفص”، ومع ذلك، وكما انتظرت طالبان الوقت المناسب لمدة عقدين من الزمان في أفغانستان، فإن الإسلاميين في المملكة خاملون ولكنهم لم يموتوا بعد.

شبه أحد المعلقين الدينيين السعوديين المعارضين الإسلاميين لمحمد بن سلمان بالنمل الذي يبني مملكة تحت الأرض في مقابلة مع مجلة الإيكونوميست، وقال: “لقد أغلق الأمير أفواههم، لكنه لم يقض على مملكتهم”.

 

الفيلة البيضاء والبجعات السوداء

على مدى نصف القرن الماضي، تحدى الشرق الأوسط باستمرار توقعات المتنبئين.

 

لقد جعلت نزوات الحكام المستبدين الأفراد والمزيج المتقلب من الثروة النفطية والدين وسياسات القوى العظمى المنطقة عُرضة بشكل فريد لأحداث البجعة السوداء ذات التداعيات العالمية، وتشمل هذه الأحداث الثورة الإيرانية عام 1979، وغزو العراق للكويت عام 1990، وهجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية في الولايات المتحدة، والربيع العربي، وصعود تنظيم الدولة في العراق والشام، وهجمات السابع من أكتوبر في إسرائيل.

سيتوقف مستقبل كل من رؤية 2030 ورؤية 1979 على مصير قادة السعودية وإيران والطلب العالمي على الطاقة الذي يدعم طموحاتهم، ولكن هل تتحول المشاريع الكبرى التي ينفذها محمد بن سلمان إلى مشاريع باهظة التكلفة وغير منتجة أو إذا شهدت أسعار النفط انخفاضا مطولا، فإن الاستياء العام المتزايد قد يجبر ولي العهد السعودي على إعطاء الأولوية لاستقرار النظام على الإصلاحات التحويلية.

ورغم أن محمد بن سلمان شاب، فإنه يدرك تمام الإدراك المخاطر المهنية التي تأتي مع الحكم المطلق، بما في ذلك الضغوط غير المتوقعة التي أسقطت المستبدين في الماضي.

كان سقوط الشاه السياسي نابعا من قوى لا حصر لها، ولكن أيضا جزئيا من تشخيص إصابته بسرطان في المرحلة النهائية وهو التشخيص أخفاه عن عائلته حتى، وهو ما أضعف بلا شك قدرته على اتخاذ القرار أثناء الأزمات.

أما في إيران، يظل مستقبل الجمهورية الإسلامية ورؤية 1979 غير مؤكد بعد بلوغ خامنئي الخامسة والثمانين من العمر.

ورغم وجود احتمال أن تنتقل السلطة بسلاسة إلى رجال الدين الموالين والقادة العسكريين الملتزمين بالمبادئ الثورية، فهناك أيضا فرصة للتحول نحو قيادة تعطي الأولوية للمصالح الوطنية والاقتصادية الإيرانية على عقيدتها الثورية.

إن الجهود التي يبذلها بعض أنصار مجتبى خامنئي، نجل خامنئي البالغ من العمر 55 عامًا وخليفته المحتمل، لمقارنته بولي العهد السعودي محمد بن سلمان مثيرة للسخرية، لكنها تشير إلى أن حتى الثوار من الجيل الأصغر سنًا في طهران يدركون أن الرؤية المستقبلية السعودية أكثر جاذبية من الرؤية الإيرانية المتخلفة.

 

إن نجاح أو فشل هذه الرؤى المتنافسة سوف يخلف عواقب عالمية واسعة النطاق. 

 

إن العالم الذي تفشل فيه رؤية 2030 بشكل دراماتيكي، مما يترك موارد الطاقة الهائلة في كل من السعودية وإيران تحت سيطرة المتطرفين السنة والشيعة، من شأنه أن يجعل الشرق الأوسط والاقتصاد العالمي أقل ازدهاراً واستقراراً.

 

اما إذا أعطت قيادة إيران بعد خامنئي الأولوية للرفاهية الاقتصادية وأمن شعبها، فإن إيران لديها القدرة على أن تصبح ذات يوم دولة من دول مجموعة العشرين وركيزة للاستقرار العالمي.

 

لقد أدت التجارب الأميركية الفاشلة في أفغانستان والعراق، إلى جانب إخفاقات الربيع العربي، إلى تبديد الأوهام إلى حد كبير بين المسؤولين الأميركيين بأن واشنطن لديها القدرة على تشكيل سياسات الشرق الأوسط بشكل هادف، على الأقل بطريقة إيجابية، وسوف يكون الفاعلون المحليون هم الذين يحددون الرؤى التي سوف تسود، ولكن بما أن رؤية 2030 تسعى إلى دعم النظام العالمي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة، وتسعى رؤية 1979 إلى هزيمته، فإن الولايات المتحدة لديها مصلحة راسخة في نجاح الأول وفشل الثاني.

من مصلحة الاقتصاد العالمي أيضا أن نرى حكومات مستقرة ومزدهرة في السعودية وإيران تعيش في سلام مع بعضها البعض ومع نفسها. وهذا يعني أن العالم يجب أن يساعد الشعب الإيراني على تجاوز النظام الأيديولوجي القمعي الذي تسبب في الركود الداخلي والاضطرابات الإقليمية، ومساعدة السعودية على التعامل مع الإصلاحات السياسية التي من شأنها أن تساعد في استدامة تحولها الاجتماعي والاقتصادي.

إن أفضل نتيجة للولايات المتحدة والشرق الأوسط والعالم هي رؤيتان مستدامتان وتمثيليتان وتطلعيتان إلى الأمام في كل من البلدين، والنتيجة الأسوأ تتمثل في نظامين متخلفين يتمسكان بمظالم الماضي.

قد يكون تحقيق الأول صعبا، لكن عواقب الأخير لن تكون أقل من كارثية.