آخر الأخبار

spot_img

ماريا قحطان.. الفن المتجدد في ذاكرة اليمن

“صحيفة الثوري” – كتابات:

شوقي نعمان

إن كان ثمة تعريف للفن بوصفه نهوض الروح من بين ركام الواقع، فإن ماريا قحطان هي هذا التعريف مجسدًا في طفلةٍ يمنية صعدت من عمق الجرح لتغني.

منذ أول لحظةٍ أطلت فيها على العالم من شاشة ذا فويس كيدز عام 2017، كنت أدرك وأؤمن بأنها موهبة صغيرة ستصل الأفق، بل كانت بيانًا فنيًا عن إمكانية الإنسان في مواجهة المستحيل ومن واقعٍ ملغمٍ بالحرب والفوضى.

من حيٍّ بسيط في صنعاء، خرج صوتها كوميضٍ في ليلٍ طويل، كأن السماء نفسها أرسلت شيئًا من شفافيتها إلى الأرض.

صوتٌ يهب الحروف معناها، والأنغام يقينها، صوتٌ يشبه المطر في أرضٍ عطشى، تلك هي ماريا.

ولأن الفن لا يُقاس بالعمر، بل بالقدرة على تحويل الألم إلى جمال، صارت ماريا الوجه الأول لليمن الجديد، يمنٍ يريد أن يُرى ويُسمع لا كخبر حرب، بل كأغنية حياةٍ وأمل.

نجحت ماريا قحطان في الهروب من مشاريع الدعاية الإعلانية حتى لا تكون صوتًا مُصنَّعًا في مختبر الشهرة؛

كانت ابنة بيئةٍ ترى في الغناء أنثى خارجةً عن السطر، وفي الفنان كائنًا يستحق الشبهة.

لكنها تجاوزت كل ذلك: سلطة الدين حين تتخذ من الخوف سلاحًا، وسلطة العيب حين تُغلق على المرأة باب الضوء، وسلطة الذكورة التي ما زالت تُرهب الصوت الأنثوي.

ماريا لم ترد على هذا العالم بالصراخ، بل بالغناء.

صوتها لم يُطلق رصاصة، لكنه اخترق الجدار.

انتصرت بلا سلاح، بلا دم… فقط بصوتٍ يُعيد تعريف الانتصار، وبدعمٍ من أسرتها الواثقة، البسيطة، والداعمة لها دائمًا.

نستطيع أن نقول إنها الفنانة التي انتصرت لكل أنثى يمنية، وللفن اليمني نفسه.

صوتها قال ما عجزت المؤسسات عن قوله: إن الأنثى ليست غائبةً عن المجال العام، بل حاضرة، قوية، قادرة على التجديد.

ولولاها وأخريات مثلها، لظل الفن اليمني محصورًا في حدود الذكور، ولكانت الثقافة اليمنية أكثر جفافًا وأقل دهشة.

ماريا واصلت ما بدأته العظيمات من قبلها: تقيّة الطويلية، منى علي، وها هي اليوم تسير إلى جانب بلقيس أحمد فتحي، وجمانة جمال، وفاطمة مثنّى، وهاجر نعمان، والكثير من الأصوات.

تتشارك معهن الإرث نفسه، وتفتح لهن ولنا أفقًا جديدًا للفن اليمني، أفقًا يتنفس من رئتي الأرض اليمنية، لكنه يتجه إلى سماء العرب جميعًا.

ماريا قحطان تجاوزت لتكون صوتًا جميلاً، إلى فكرةٍ ووعيٍ فنيٍّ نادر.

كانت تعرف منذ بدايتها أن الفن ليس مجدًا شخصيًا، بل رسالة جماعية.

حين ظهرت في بودكاست متن، كانت تتحدث بتواضعٍ لافتٍ عن الفن بوصفه مسؤوليةً أكثر منه شهرة، وعن الغناء كوسيلةٍ لشفاء الداخل قبل أن يكون ترفيهًا للآخرين.

قالت القليل، لكنها من القلائل الذين جعلونا نصغي بكل محبةٍ واعتزاز.

لا يخفى على أحد أن المشهد العربي يزدحم بالوجوه العابرة، ولكن ظلت ماريا وجهًا لا يُنسى، لأنها ليست مستنسخةً من أحد.

هي خصوصيتنا اليمنية التي لم تُذبها العولمة، بل زادتها تألقًا.

هي ابنة واقعٍ فقيرٍ بكل شيء، إلا بالمبدعين، تزرع صوتها في أرضٍ مجروحة لتخرج منها وردة الأمل.

ولأن الفن، كما يقول نيتشه: «ليس ترفًا بل ضرورةً للعيش»، فإن ماريا قحطان ليست ترفًا صوتيًا، بل ضرورةً يمنيةً وعربيةً، هذا بحسب قناعتي والكثير من المعجبين.

هي تجسيدٌ لفكرة أن الجمال مقاومة، وأن الفن شكلٌ من أشكال الكفاح السلمي، كما أن الغناء، في لحظات الظلام، هو أصدق أشكال الصلاة.

منذ زمنٍ وأنا أؤجل الكتابة عنها، كنت أخشى أن تخون اللغة مشاعري.

لكن اليوم، أكتبها كما تستحق، لا بلغة الأبوة، بل بلغة الأنثى التي فينا جميعًا.

أقول لها ببساطة:
أنتِ ماريتنا، فنّنا، صدى اليمن الجميل في زمنٍ قبيح.

أنتِ البرهان أن الفن يمكن أن يولد حتى من تحت الركام، وأن الصوت الأنثوي حين يعلو، لا يعلو عليه شيء،
وأن الفن الحقيقي لا يحتاج إلى سلاح، يكفيه أن يكون صوتًا صادقًا مثل صوتك الذي يشبه اليمن الكبير في حقه بالحلم والأمل.