آخر الأخبار

spot_img

رايلا أودينغا: صوت الفقراء ونضال الديمقراطية في كينيا

صحيفة الثوري- كتابات: 

مأرب الورد

يمثل رايلا أودينغا، الذي رحل يوم 15 أكتوبر الجاري عن عمر يناهز الثمانين، أحد أبرز أعمدة السياسة الكينية المعاصرة، وشخصية ارتبط اسمها بالنضال الديمقراطي والعدالة الاجتماعية لأكثر من خمسة عقود. لم يكن مجرد زعيم معارض أو مرشح رئاسي تكررت خسارته الانتخابية، بل كان تجسيدًا حيًا للقيم الإنسانية والسياسية، وهو ما أكسبه لقب “بابا” — أي “الأب” بالسواحلية — تعبيرًا عن دوره الرمزي كحامي للفقراء والمهمشين. وقد جسّدت حياته أكثر من مجرد صراع على السلطة، بل كانت رحلة طويلة من الدفاع عن الديمقراطية والمساواة، والسعي لتحويل الخسارة السياسية إلى فرصة للإصلاح.

وُلد أودينغا في بيت سياسي عريق ينتمي إلى قبيلة اللوو، رابع أكبر قبائل كينيا من حيث العدد والأهمية، وكان والده، جاراموجي أوجينغا أودينغا، نائب الرئيس الأول بعد الاستقلال، شخصية سياسية محورية تركت بصمة واضحة في تاريخ البلاد. ورغم هذا الإرث، اختار رايلا أن يسلك طريق المعارضة المستمرة، مجسّدًا صوت العدالة والمساواة، ومتمسكًا بمبادئ الحرية والديمقراطية.

تأثر أودينغا بوالده منذ طفولته، إذ نشأ في بيئة تُقدّر الفكر الاشتراكي الأفريقي والعدالة الاجتماعية، وكان لذلك تأثير كبير على تشكيل رؤيته السياسية. ومع فرصته للدراسة في ألمانيا الشرقية خلال الحقبة الاشتراكية، تمكن من الاطلاع على الفكر الاجتماعي التقدمي بشكل أعمق، ما عزز ميله الطبيعي نحو العدالة والمساواة، وركز لديه قناعته بأن الدولة يجب أن تلعب دورًا أساسيًا في توفير الخدمات الأساسية للمواطنين، بما في ذلك التعليم والصحة والبنية التحتية، لضمان حياة كريمة للفقراء والمهمشين على حد سواء.

تجسّد الصراع السياسي في حياة أودينغا منذ صغره، فقد استقال والده من الحكومة عام 1966 بعد خلاف حاد مع الرئيس جومو كينياتا، والد الرئيس الرابع أوهورو كينياتا، وكان هذا الخلاف نتاجًا لتباين في التوجهات الدولية؛ فقد فضل والده إقامة علاقات أقوى مع الاتحاد السوفييتي والصين، بينما اختار كينياتا التحالف مع الولايات المتحدة والدول الغربية. انتهى الصراع بسجن جاراموجي لمدة 18 شهرًا حتى عام 1971، وهو ما أضفى على مسيرة أودينغا روح النضال السياسي منذ الصغر.

هذه الخلفية لم تكن بعيدة عن تجربته الشخصية، إذ عاش السجن السياسي أيضًا كجزء من نضاله، فقد سُجن مرتين بين عامي 1982 و1991 خلال حكم الرئيس دانيال أراب موي بسبب معارضته لنظام الحزب الواحد، وكانت المرة الأولى نتيجة مشاركته في محاولة انقلاب عام 1982، وهو ما ساهم في ترسيخ اسمه على المستوى الوطني وأكسبه سمعة قوية كمعارض شجاع ملتزم بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

ارتبطت مسيرته السياسية منذ بداياتها بالمطالبة بالإصلاح الدستوري وتقاسم السلطة، مؤمنًا بأن كينيا لا يمكن أن تزدهر إلا في ظل نظام عادل يضمن توزيع الفرص والنفوذ بشكل متساوٍ. لم يكن هدفه الوصول إلى الحكم فحسب، بل كان يرى الديمقراطية وسيلة لحماية كرامة المواطنين، لا سيما الفقراء والمهمشين في المناطق النائية.

في هذا الإطار، أسس أودينغا حركة الديمقراطية البرتقالية (ODM) عام 2005، التي تمثل التيار الوسط اليساري وتهدف إلى الجمع بين التعددية الديمقراطية والمساواة الاقتصادية والاجتماعية. ولم يكن ماركسيًا صريحًا، لكنه ركز على العدالة الاجتماعية وتقليص الفوارق الطبقية، بعيدًا عن الليبرالية الاقتصادية التي فضلها خصومه.

خاض أودينغا الانتخابات الرئاسية خمس مرات، وكان كل سباق تجربة متكاملة في الصبر والمثابرة والإصلاح السياسي. بدأ رحلته الانتخابية عام 1997 مستخدمًا رمز “تينغا” أو الجرار، الذي ساعده على بناء قاعدة جماهيرية واسعة رغم عدم فوزه. وفي انتخابات 2007، التي كانت واحدة من أكثر السباقات إثارة للجدل، فقد الفوز بفارق ضئيل وأدت النتائج إلى احتجاجات جماهيرية واسعة، لكنه قدم الطعون القانونية التي ساهمت في تحسين شفافية المؤسسات الانتخابية. ثم عاد في انتخابات 2013، حيث كانت المنافسة محتدمة، لكنه ركز على تعزيز الديمقراطية وإصلاح العملية الانتخابية بدلًا من المكاسب الشخصية. وفي 2017، خاض السباق مرة أخرى وخسر بفارق ضئيل، لكنه واصل دعم الإصلاح القضائي والانتخابي، وفي عام 2022، خسر الانتخابات أمام الرئيس وليام روتو بفارق ضئيل، لكنه حافظ على موقعه كزعيم للمعارضة، قبل أن يتم التوصل لاحقًا إلى تفاهم سياسي أدى إلى مشاركته في الحكومة عام 2024، مؤكدًا قدرته على الموازنة بين المعارضة والمشاركة العملية في الحكم، رغم أن هذه الشراكة أثارت انتقادات ضده.

ولم تكن هذه التجارب مجرد منافسات انتخابية بالنسبة له، بل فرصًا لإصلاح العملية الديمقراطية وتحويل كل هزيمة إلى درس عملي. فقد أثبت دوره في الطعون القانونية بعد الانتخابات أن الديمقراطية تحتاج إلى حماية مستمرة، وأن المؤسسات الانتخابية يجب أن تتطور لتعزيز الشفافية. ووفقًا لتحليل نشره موقع BBC بعنوان «كيف ساهمت طعون أودينغا أمام المحاكم في تحسين الانتخابات في كينيا»، فقد أجبرت هذه الطعون المؤسسات على تطوير أنظمتها وتعزيز الشفافية، كما ساعدت في ترسيخ دور القضاء كجهة رقابية حقيقية. ولم تكن الطعون مجرد مواجهة سياسية، بل نموذجًا عمليًا في تحويل الخسارة إلى فرصة للإصلاح.

من وجهة نظر مؤيديه، كان أودينغا يتسم بسلوك تصالحي بعد كل انتخابات محتدمة، مستندًا إلى إيمانه بأن استقرار المجتمع ووحدة الوطن أهم من أي مكاسب شخصية. سعى دائمًا إلى تهدئة الشارع ومنع التصعيد بعد إعلان النتائج، وهو ما جعله في كثير من الأحيان هدفًا لانتقادات خصومه الذين رأوا في مواقفه التصالحية مجرد تكتيك سياسي لكسب مكاسب بعد الخسارة. ورغم ذلك، ظل أودينغا يرى أن المصلحة الوطنية تتجاوز أي مصالح شخصية أو حزبية، مؤكدًا التزامه بوحدة المجتمع واستقرار الدولة.

امتازت شخصيته بالقدرة على التعبئة الجماهيرية وعقد التحالفات السياسية، مما جعله صوت الفقراء والمدافع الأول عن توزيع أكثر عدلاً للثروات. كان قريبًا من الناس، يتحدث لغتهم، ويؤمن بأن السياسة يجب أن تُبنى على العدالة لا على الولاءات القبلية أو النفوذ العائلي. وكان رجل حوار قبل أن يكون رجل صراع، حافظ على صداقاته عبر الانقسامات السياسية، تاركًا بصمة في قلوب خصومه قبل أنصاره، ومظهرًا أن التسامح والشجاعة يمكن أن يسيرا جنبًا إلى جنب.

توفى أودينغا بعد أن أصبح إرثه مرتبطًا بالنضال الديمقراطي والعدالة الاجتماعية في كينيا، تاركًا درسًا واضحًا في أن الخسارة لا تُقاس بعدد الأصوات، بل بما تُحدثه من إصلاح ووعي في ضمير الأمة. وكان مثالًا حيًا على أن السياسة ليست مجرد منافسة على السلطة، بل مسؤولية أخلاقية تجاه الشعب، وأن الديمقراطية تتحقق بالإصلاح المستمر والتصميم على العدالة الاجتماعية.

بالإضافة إلى نشاطه السياسي، كان أودينغا رجل أعمال ناجحًا، يمتلك شركات مثل East Africa Spectre لتصنيع أسطوانات الغاز وKisumu Molasses Plant لإنتاج الإيثانول، ومع ذلك لم تجعل الثروة محور نشاطه، بل ظل ملتزمًا بالقضايا الاجتماعية والسياسية التي تهم عامة الشعب.

كان رايلا أودينغا زعيمًا يجمع بين الخبرة السياسية والحنكة الإنسانية، مؤمنًا بأن العدالة الاجتماعية والديمقراطية هما الطريق لبناء وطن قوي ومستقر. ورحيله يمثل فقدانًا كبيرًا لكينيا، لكنه ترك إرثًا حيًا في المؤسسات السياسية والاجتماعية، وإلهامًا للأجيال القادمة لمواصلة النضال من أجل دولة عادلة ومتساوية.
مراجعة إملائية فقط