آخر الأخبار

spot_img

عزيزتي “الثالثة”

“صحيفة الثوري” – كتابات:

خالد عبدالهادي

تخرج الصحف من المطبعة برائحة الحبر النافذة ومشهد الألوان المحتشدة، إلا أن ثمة طائفة من الصحف، حين تنشرها بين يديك، يعبق منها التاريخ، وتطلّ منها أرواح ووجوه من عالم الخلود، لتمدّ ما انقطع من اتصال الأجيال.

والـ«ثوري» إحدى هذه المطبوعات، أو هكذا أحسبها دوماً.

فقبل عقود، كان تاريخ الجنوب اليمني يتقرر على الأرض، وفي اليوم التالي يطالع القرّاء وقائعه على هذه الصفحات ذاتها.
وعلى هذا العمود حاجج عبدالله باذيب، وهناك، في منتصف المطبوعة، انداح خطاب لعبدالفتاح إسماعيل. وأيّ صفحة داخلية ستُخبرك، جذلى، أنها استضافت أجزاء من مشروع أبوبكر السقاف الفلسفي في السياسة المدنية.

وخلال عقود متعاقبة، زخرت الصفحة الأخيرة بأسماء من وزن عبدالله الوصابي، وسلطان الصريمي، وعبدالباري طاهر، وعلي الصراري، وخالد سلمان، وأبوبكر باذيب، وحسن عبدالوارث، ممن شغلوا رئاسة التحرير أو إدارتها.

في عيد «الثوري» الثامن والخمسين، أحتار في ما أكتب لها: أتحية أم رثاء أم نصّاً تذكارياً أتذكّر فيه عهدي بها؟
فالذكرى التي لا تشفي فؤاد المشوق، ربما تُعلّله.

في عام 2012 كنت قد سئمتُ، بعد سبعة أعوام من العمل في الصحافة الإلكترونية في موقع «الاشتراكي نت»، وأحسستها جافة لا تروي غليلي، في سبر ما وراء الأخبار السريعة التي عليك مطاردتها دقيقة تلو أخرى، كما لو أنك في ماراثون سباق سريع من فئة 100 متر.

كنت أرى موقعي هناك في مضمار الخمسة آلاف متر، حيث لا يخشى المتسابق أن يطويه منافسوه بأي سرعات شاءوا، فالكلمة الأخيرة وإكليل الغار لمن يُحسن أداء الأمتار الأخيرة.

لأجل ذلك، توجهتُ إلى «الثوري» بلا موعد ولا إجراءات بيروقراطية.
كان عليّ فقط أن أصعد سُلّم المبنى إلى الطابق الثاني، لأجدني مُرحّباً بي بين زملاء كرام.

«أحب هذه»… قلتُ بينما كان بصري يجول في الصفحة الثالثة.

لا تُغريني الثانية، ولا الأخيرة، ولا الوسطى.
فعند شخصٍ أعسر مثلي، أشعر أن عصبي وبصري يرتاحان هنا، ويستقران في هذه الطيّة اليسرى من الصحيفة، وتحديداً في الصفحة الثالثة.

وسيتعيّن عليّ تخليصها من رتابة الأخبار المتفرقة، وجعلها تقطر ما بعدها، وتجذب ما قبلها من الصفحات، لتنشئ بؤرتها المتخيلة وتُغري القارئ بتتبّعها.

لن أكتب هنا تقارير جافة أو استقصاءات من ذلك النوع الذي تنبغ لغته من دفاتر الرياضيات، أو نصوصاً بروح أكاديمية متقعّرة.

ولن أكتب بلغةٍ تمتهن التدليك وتخشى إثارة الغضب، بل بلغةٍ تقع على الورق حارّة كما صعدت من بين دمائها، ومتوثبة للصعق والوخز.

بجملة أخرى: يمكنني ملء هذا الحيّز —الصفحة الثالثة— بتقريرٍ جاد وواقعي، حيويّ وربما وعر، لكنه محمول على لغة ممشوقة وندية، تغمّست في نهر الأدب السياسي كي تأتي بكامل نضارتها.

لو أمكن المضي في إنجاز هذا الحلم وضمه إلى بقية تطلعات الزملاء، لكان برهاناً على أن بوسع الأحزاب نشر صحافة حزبية مقروءة ومستساغة، تجذب حتى القارئ غير الحزبي، وتتمتع بحريةٍ تبزّ ما لدى الصحافة الأهلية والحكومية.

لكن هذا التطلع بزغ في عصر اليباب الحوثي الممسوخ، الذي كان الأسرع إلى جزّه يوم أن حظر الصحيفة المطبوعة في يناير 2016، ومعها سائر الصحافة المطبوعة والإلكترونية.

كلما كان الوهن يُصيب الحزب، كانت «الثوري» تتولى دوره بين الجماهير، وتُصلب خطابه إن خرج ليّناً أو مهادِناً من أفواه قادته، ودائماً ما عملت سفيرةً لدى أعضائه البُغاة.

أمّا وقد وهن الحزب اليوم، وهجعت «الثوري» المطبوعة في استراحةٍ قسرية، فلا بد أن أي اشتراكي محبط وحزين.

بدلاً من ذلك، لنعوِّل على «الثوري» الإلكترونية: هذه البذرة التي، بمزيد من الاعتناء بها، قد تغدو شجرةً من تلك الفصيلة الحمراء ذاتها.

لو أنني كنت أؤرّخ، لما أغفلت اسماً ينبغي ذكره، غير أنني إنما كنت أتذكّر، على سجيّتي، قسماً من علاقةٍ مهنية جدّ متواضعة مع «الثوري».