“صحيفة الثوري” – ثقافة وفكر:
إياد أحمد

“الإيقاع هو معنى”
شيموس هيني
الصباح هنا لا يأتي، بل يتهدج في قدومه مثل شيخ يصعد درجات جامع بحجارة ملساء. شمس متجهمة تهبط على المدينة كيد من نحاس، الرطوبة تنثر وقتها المبلل على الواجهات الحجرية وعلى رئات العابرين. الجبال الشاهقة التي تطوق المدينة من جهات ثلاث بدت كأنها جاءت من زمن سحيق، جبال بهيئة جامدة، تحبس الحر وتضاعف وطأته على الأزقة والبيوت والوجوه. المدينة أشبه بمصيدة للزمن ماضيها حاضر في صوت أهلها، وحاضرها عالق في ماض لا ينقضي.
إلى السوق القديمة من جهة الخور أو البحر. المظلات الخشنة تئن، والقماش المشدود على ناصية الدكاكين ينتفخ ويهبط مثل صدر يلهث. روائح متداخلة، سمك تزفر منه رائحة ملح، تبغ رخيص، أكواب زجاجية متشابهة على طول طاولات متشابهة يجلس عليها رجال بوجوهٍ نصف نائمة، ظلال لحىً تلمع مبتلة، قمصان مفتوحة الأزرار، عروق نافرة في أعناق اسمرت حتى صارت بلون الحبال. نساء بعيون نصف مطفأة، يسرن سريعًا وبأيديهن بضائع ناقصة، يتحاشين الشمس كمن يتحاشى نظرة لص متربص. أطفال بضحكات مكسورة، يلاحقون ظلهم ثم يفلتونه، يحمل أحدهم قالب ثلج صغيرًا يذوب في كفيه مثل كذبة واهية لا تصمد.
في قلب السوق، يتربع الجامع بسحنته البيضاء كملكٍ صامت. أعمدته العالية وأبوابه الصقيلة تشبه حارسًا أبديًا، كأنه يحتضن السوق والمدينة كلها بين ذراعيه الحجرية. ينهض من أعماق الحي القديم ليس مجرد مكان للعبادة، بل ليمارس سلطته الرمزية على السوق والناس: كل دربٍ ينتهي عنده، وكل بضاعةٍ تمر من جواره. الجامع هنا ليس بناءً فحسب، بل ذاكرة من صخر، أكثر هيمنة من تلك الجبال التي تسند ظهر المدينة.
في الأزقة الممتدة من ثنايا الجامع، لا تُباع القهوة، بل الشاي باللبن، ثقيلًا ودافئًا. وعلى مراتب خشبية تغطي نصف باب الحانوت الضيق تُعرض قوارير العسل ببطء، ذهبية، لامعة، كأنها تحفظ في داخلها شمسًا أخرى غير هذه التي تضرب الرؤوس. الناس يرتدون فُوطًا ملونة، منسدلة كأشرعة صغيرة، ترفرف بألوانٍ متنافرة، لتمنح مشهد السوق صخبًا بصريًا يعادل ضجيج حركة الناس والباعة.
***
الأصوات هنا في المدينة عميقة، مبحوحة، كأنها خرجت من غرفة حجرية. ينادي البائع على بضاعته، لا يبيع فحسب؛ بل يهتف شطر قصيدة انكسرت قافيتها على صخرة حضرمية. المبايعة نفسها تستحيل إلى زجل قديم: بائع العسل يرفع السعر كما يمتد بيتا من البحر الطويل، والناس يتكلمون بثقل من يقول الشعر القديم: طبقة كثيفة، ووقفات قصيرة متواترة وعند آخر السطر يلمع الحرف ويرن وكأن لكل عبارة علم عروضها الفريد.
في الممر بين دكان التمر وبسطة البهارات، امرأة تتفاوض بجهد محسوب؛ عينان نصف مطفأتين، لكنهما تلتقطا التفاصيل الصغيرة للبضاعة على الميزان كما تلتقط الإبرة خيطًا ضائعًا. فيما بائعة أخرى رفعت صوتها، فخرج الكلام بدفء أجش، وفي آخر جملة كأنها مالت على شطر بيت من الشعر. المفارقة هنا لا تحتاج إلى شاهد: الناس يرفعون صوتهم كي يغطوا صمت البحر، والبحر يعلو هديره كي يحمي هشاشة أصواتهم.
والأصوات هنا كثيفة، مخملية، متشابكة متدرجة كما لو أن كرامة مرسال وزع طبقاته الصوتية على حناجر أهل المدينة جميعًا، أو كأن كرامة مرسال انتقى صوته من أصوات كل الناس! كل شخص هنا يتحدث بصوت يبدو أنه خرج من حنجرة جماعية، كل امرأة تنادي كأنها تنشد شطراً من بيت شعر جاهلي. الأصوات تتكاثف كأنها تصنع نسيجًا واحدًا، كأن المدينة بأكملها تتكلم بحنجرة واحدة صنعتها القرون.
***
عند مصطبة من الخشب قرب رائحة البحر وتحت أقواس (سكة يعقوب) قال رجل شاهق بكتفين متباعدين، كأنه حمل عليهما الميناء والبحر:
من أي صوب؟ قلت من هناك حيثما كتب المقالح أشعاره.. كان الصوت القادم نفسه إجابة كافية. صوت كحبل تتوسطه حبكة، يخرج من حنجرة جافة، لكنه محشو بخشب قوارب مهجورة. ابتسم كأنه يفهم تلكؤ الغرباء، ثم عاد إلى سمكاته التي تشبه مرايا صغيرة بلون كأن السماء حطت عليها.
وفي ركن مائل إلى الظل، شيخ يبيع قطع الثلج كما لو كان يبيع وقتا مؤجّلًا. قلت له:
هل يكفي هذا للبيوت؟
قال:
الثلجُ مثل الذكرى، لا يصل كاملاً إلى البيت.
هنا يُباع الظل بالمتر المربع، والماء البارد يقدم مثل الهدايا الموسمية، وحسن الخاتمة تتناوبها شفاه الخلق أينما حركت بصرك.
***
المراكب قرب الرصيف تتراجع وتتقدم كأنها تتنفس. في كل رجفة من الموج، تلتصق الألواح ببعضها فتصدر أزيزًا يشبه كلامًا قديماً نُسيت غايته وبقي صوته. يُخرج صياد من جيبه بقايا جريدة، يلف بها سمكة صغيرة، ثم يرفع رأسه ويهتف بالبحر كأنه يتلو أسماء أسلافه القدامى.
الصيادون الذين بدوا في النهار متعبين، يبدون في الليل مثل ظلال أسطورية، أصواتهم أكثر خشونة، لكن في نبراتها حنين غامض، حنين يشبه صلاة غير معلنة.
***
في آخر السوق، قبل أن ينفتح الطريق على الخور عائداً أتنفس الهواء ثقيل ممتلئ بأصوات واستعارات غريبة: كأنها أبيات مبعثرة من الشعر القديم. في هذه المدينة، حتى الصمت أجش، والشمس تقول بيتًا ناقصًا قبل أن تستكمل شطره الأخر في بيان الناس وأحاديثهم!
قلت في نفسي المدينة لا تعرف بمشهدها، بل بأصواتها، كل صوت فيها يحمل فعل الماضي البعيد، وكل جملة مكتوبة بجرح أمرؤ القيس وأحزانه. اللغة هنا ليست وسيلة للكلام، بل تعويذة تستدعي أزمنة غائرة في ذاكرة المكان! هناك مشى الغريب ببطء، حتى لم يعد غريباً. وحين التفت إلى الوراء، وجد نفسه ينظر ملياً في البحر.
قلت في نفسي: المدينة لا تُعرف بمشهدها، بل بأصواتها، كل صوتٍ فيها يحمل فعل الماضي البعيد، وكل جملةٍ مكتوبة بجرح امرئ القيس وأحزانه. اللغة هنا ليست وسيلة للكلام، بل تعويذة تستدعي أزمنة غائرة في ذاكرة المكان. كأن المدينة تعرف أن الصوت هو ما يُبقيها يقظة في وجه النسيان، وأن المعنى لا يسكن الكلمات، بل يزهر في إيقاعها. هنا، الإيقاع ليس وزنًا، بل ذاكرة تتنفس من داخل اللغة، نفس طويل بدأ منذ بيت الشعر الأول ولم ينقطع. قال شاعر بعيد ” الإيقاع صوت المعنى” وربما لهذا يتكلم أهل المكلا بما يشبه التذكّر، لا القول؛ اللغة هنا تُعيد وعيها بنفسها من خلال الصوت. هناك مشى الغريب ببطء، حتى لم يعد غريبًا. وحين التفت إلى الوراء، وجد نفسه ينظر مليًا في البحر.
المكلا
05 أكتوبر/ تشرين الأول 2025
(نقلا عن نشرة رف الخميس)