آخر الأخبار

spot_img

خلود لطخ بالدم

“صحيفة الثوري” – ثقافة:

جولان الوريدي

أيُّها السادةُ،
التاريخُ ينامُ على سريرٍ من الكذب،
ويغطّي عورتهُ بصورِ الزعماءِ المبتسمين.
كلُّ واحدٍ منهم يَخافُ من الموتِ الحقيقي،
ومن الموتِ الثاني — النسيان.

فيخلقُ حربًا من أجل أن يُذكَر،
ربما تبدأُ من “كلمة”،
لكنها تنتهي ببلدٍ بلا رئتين.

كم من زعيمٍ أيقظَ المدافعَ لأنّ الأضواءَ خمدتْ عنه؟
كم من واحدٍ رسمَ خارطةَ الجحيم
كي يُقال: “لقد أعادَ رسمَ الشرق!”

هتلر أحرقَ أوروبا ليكتبَ اسمَه في القارّة،
وبوش غزا العراقَ ليعلّقَ مجدهُ على تمثالٍ مكسورٍ في بغداد،
ونتنياهو يَقتلُ غزّةَ كلَّ عقدٍ
ليذكّرَ الناخبين أنّهُ “ظلّ الربّ” في الأرضِ المحتلّة.
وبين هؤلاء…
تتسلّلُ وجوهٌ عربيّةٌ كثيرة،
تغسلُ أيديها بدماءِ أطفالها،
ثم تُمسكُ قلمًا ذهبيًّا لتوقّعَ “سلامًا تاريخيًا”.

يا سلامًا تُوقَّعُ عليهِ الجثثُ قبلَ الورق!

هكذا يصنعون مجدهم:
من رمادِ المدنِ،
ومن الحبرِ الذي كُتبَ بدمِ الجنود.
يقولونَ: “أوقفنا الحرب!”
لكنّهم هم من أشعلها أصلًا كي يوقفوها،
ويكتبوا أسماءهم في آخرِ السطرِ من المأساة.

التاريخُ، يا صاحبي،
ليس دفترًا يُسجَّل فيهِ من خدمَ الناس،
بل من صرخَ أعلى.
ومن صرخَ أعلى،
كانَ عليهِ أن يرفعَ صوتهُ بالنار لا بالكلمة.

من لا يملكُ فكرةً يزرعها في الأرض،
يزرعُ قنابلَ ليُزهِرَ الموتُ باسمه.
ومن لا يملكُ حبًّا يورّثه،
يورّثُ كراهيةً تتغذّى على النشيدِ الوطني.

ثمّ إذا جفّتِ الحربُ،
عادوا إلى الورقِ كالعاشقينَ التائبين،
يوقّعونَ الهدنةَ بدموعٍ مصطنعة،
ويقولونَ: “نحنُ صُنّاعُ السلام.”
والسلامُ منهم براء،
كما الأرضُ من حدودِهم،
وكما التاريخُ من ضمائرِهم.

أرى القادمينَ من الغد،
يحملونَ الخرائطَ كأكفانٍ جديدة،
يعدّلونَ حدودَ اللهِ على مزاجِ النفط،
ويستبدلونَ أسماءَ المدنِ بأسماءِ الزعماءِ.

أرى زعيمًا يولدُ من رمادِ زعيم،
كأنَّ التاريخَ ماكينةُ استنساخٍ للعار.
يَشعلونَ حربًا باسمِ الشرف،
ويُطفِئونَها باسمِ السلام،
وفي الحالتين…
تُدفَنُ الحقيقةُ في بياناتِهم الرسميّة.

سيُعيدونَ المشهدَ كلَّ عقدٍ:
حربٌ تلدُ مجدًا،
ومجدٌ يلدُ هدنةً،
وهدنةٌ تلدُ حربًا أوسع.
كأنَّ الذاكرةَ العربيّةَ رحمٌ لا يجهضُ أبناءَ الخطابة.

سيُطلّ الزعيمُ القادمُ،
يقولُ بوجهٍ مطمئنٍّ:
“لقد جئتُ لأُنقذكم من الخراب!”
ونحنُ نعرفُ أنّهُ جاءَ ليمنحَ الخرابَ هويّةً جديدة.

يا شعبي،
احذروا الزعيمَ الذي يخافُ النسيان،
فهو أخطرُ من الزعيمِ الذي يخافُ الموت.
الأولُ يقتلكَ لتبقى صورتُه،
والثاني يهربُ فقط ليبقى حيًّا.