“صحيفة الثوري” – كتابات:
بقلم الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني الدكتور عبدالرحمن عمر السقاف
تحل علينا الذكرى السابعة والأربعون لتأسيس الحزب الاشتراكي اليمني، متزامنةً مع الذكرى الثالثة والستين لثورة السادس والعشرين من سبتمبر، والذكرى الثانية والستين لثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدتين، والمناخ السياسي في بلادنا معبأً بالهيمنة لنوعين من الخطاب السياسي.
أولهما مناطقي وضمن مواجهات متضادة في سياقاته، والآخر مذهبي بأبعاد طائفية ومذهبية متناحرة يلغيان بعضهما الآخر، والخطابين أفلحا داخل صراعات الحرب الجارية منذ تسعة سنوات في تدمير التعايش السلمي وإنتاج ثقافة الكراهية، ما جعل من الحالة النفسية الانفعالية في المجتمع محدداً للسلوك تجاه الآخر المستهدف.
“تراجع الحالة العقلية عند الفرد وتقدم الحالة النفسية الانفعالية في التعاطي مع الآخر، جعلا من الخطابين المذهبي والمناطقي أداة فعالة لتدمير الوعي الوطني.”
إن تراجع الحالة العقلية عند الفرد وتقدم الحالة النفسية الانفعالية في التعاطي مع الآخر زاد من فاعليتها؛ استهداف الخطابين المناطقي والمذهبي المسيس وبطريقة مقيتة وباستخدام لغة مبتذلة جميع عناصر البنية السياسية الوطنية في الوعي والقائمة على التعبيرات المدنية الحداثية وتجسيداتهما المؤسسية، وفي المقدمة منها الأحزاب السياسية المدنية والمنظمات الاجتماعية والنقابات — وهي البنى التي ناضلت من خلال عقود طويلة من أجل إدخال اليمن إلى الحضارة الإنسانية المعاصرة، ودفعت بالتاريخ الوطني لليمنيين إلى الأمام ونشرت مفاهيم المواطنة والمساواة الاجتماعية والحرية وحقوق الإنسان والدولة والدستور، وهي بمجموعها عملت على رفع الحس الوطني العام المشترك لدى اليمنيين ولا تغيب عنا اليوم المفاعيل السلبية للخطابين سالفا الذكر على مستوى الوعي الوطني.
كيف أنها شيئاً فشيئاً تؤدي إلى مصادرة الشعور بالهوية الوطنية المشتركة فينشأ من جراء ذلك الفراغ في الروح الوطنية فتنصدع الأوطان، وهذا ما نراه اليوم ماثلاً أمامنا.
“تفكيك البنية السياسية الوطنية الجامعة بإعلاء شأن المناطقية والمذهبية، وترسيخ نظام المحاصصات الفئوية، يؤدي إلى قيام دولة شكلانية وراء صورتها الخارجية خواءٌ حقيقي.”
إن تفكيك البنية السياسية الوطنية الجامعة بإعلاء شأن المناطقية والخطاب المذهبي الاستعلائي، وترسيخ نظام المحاصصات الفئوية في الوعي المجتمعي وخاصة فيما يتعلق بالسلطة والثروة، كما هو جار في الأوضاع الراهنة شمالاً وجنوباً ومصادرة الفضاء العام، وضرب الأحزاب السياسية الوطنية باعتبارها أوعية سياسية جامعة والتمكين لقوى ما دون الدولة في إدارة شؤون المجتمع، وإفراغ الوعي السياسي لدى المواطن من أية هوية سياسية وطنية جامعة لصياغة عقله، بحيث تتوفر لديه قابلية ومن دون أدنى درجة من القدرة على الامتناع لما يتشكل راهناً من دولة شكلانية وراء صورتها الخارجية خواء حقيقي، يسهل العبث بها بأيدي داخلية ومتظافرة مع الخارج والذي يسعى إلى تشكيل اليمن اقتصادياً ضمن تبعيته بنيوياً في صيغ روابط إقليمية تشاركية أو تقاسمية خلال انصبة ثلاثية أو خماسية يتحدد موقع اليمن فيها بأقل من قدره ومكانته الجيواستراتيجية.
والخطاب السياسي هذا المهيمن ببعديه المذهبي والمناطقي، وإذ يمعنان في تخريب الوعي الشعبي وتفتيته بالتوجهات السياسية الشعبوية وإعادة إحياء الأساطير والخرافة والشعوذة وتمكينها من عقول الشباب، يهدفان إلى خلق فوضى المفاهيم في العقول وتزييف الوعي الاجتماعي وتشتيته وإغتراب المواطن عن الحقيقة والتنكر للوقائع وتضخيم الأوهام.
“استطاع الحزب الاشتراكي اليمني أن يبني نسقاً فكرياً كفاحياً تغييرياً، إذ لم يكن يعمل بالسياسة بالارتجال، بل وفق مشروع سياسي وطني بحسب كل مرحلة تاريخية ومتطلباتها.”
ولفهم أفضل لطبيعة الأمور التي كانت سائدة منذ الفترة 1990 وحتى اللحظة أي خلال خمسة وثلاثين عاماً، يتبين فيها القضايا الجوهرية التي شكلت الشاغل السياسي والفكري والنضالي للحزب الاشتراكي اليمني، وفي هذا السياق لنا أن نوضح للقارئ الحقائق الأساسية التالية:
- لما كانت السياسة هي الفكر السياسي والعمل السياسي معاً استطاع الحزب الاشتراكي اليمني في سياقات نضالاته الوطنية على الأصعدة الحياتية كافة وفي مختلف مراحل تاريخه الخاص أن يبني نسقاً فكرياً كفاحياً تغييرياً، ذلك أنه لم يكن يعمل بالسياسة بالارتجال بل وفقاً لمشروع سياسي وطني، بحسب كل مرحلة تاريخية ومتطلباتها، بداية من طرد الاستعمار البريطاني من الجنوب وإيجاد هوية وطنية سياسية جامعة على جغرافيته، وبناء دولة حديثة منحازة طبقياً لصالح الفقراء والكادحين، وتحقيق جغرافيا سياسية ملتحمة في الركن الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية مع قوى التحرر الوطني والعربي والعالمي في الظروف التي فرضتها الحرب الباردة عالمياً وقيمها الأخلاقية والفكرية والأيديولوجية المتصارعة، كما عمل على مشروع سياسي وطني ممتد على كل الجغرافية اليمنية في إطار وحدة تدهورت في أقل من ثلاث سنوات وتغيرت بنتيجة هذا الفشل أقدار اليمن والحزب والشعب وانتهت بنا إلى وضعنا الحالي.
- وإذ تمثل الوثائق الفكرية السياسية النظرية اجتهادات الحزب في الرد على أسئلة الواقع تستطيع القول بشأنها أنها إجاباته عن السؤال الرئيسي (ما العمل؟) وبصرف النظر عن الإجابات تلك، وهي محكومة بظروفها، إلا أننا عند البحث فيها بتجرد ويحيادية موضوعية متخففة من ثقل الأيديولوجيا واحتقانات الخصومة السياسية ستجد في استخلاصات هذه الوثائق أنها لا تزال تملك قدرة تفسيرية تلامس بوضوح حقائق واقعنا اليومي من حيث متطلبات الحلول الموضوعية للخروج من أزماته وفق تصور يضم تطلعات الشعب والمصلحة الوطنية الحقيقية.
- لا يمكن فصل الحزب ومن أجل تحديد مكانته السياسية والوطنية عن ما أنجزه خلال نضالاته في سياقات تاريخ اليمن المعاصر؛ فقد كان الحزب خلالها محركاً للأحداث الوطنية الكبرى أو ضمن محركات بعض تلك الأحداث بالتشارك مع الآخرين، ولعل العوامل التي شكلت أرضيات تطور الحزب متطابقة مع مجمل التطورات السياسية الوطنية التي شهدها البلد، وفي هذا الصدد كذلك لا يمكن التعرف على الحزب ورؤاه الفكرية والسياسية وتحديد صوابية مواقفه السياسية من عدمها بمعزل عن تلك التطورات وظروفها، وإلى ذلك فإن الحكم على مواقفه السياسية والتاريخية ينبغي أن تعتمد على طروحاته السياسية.
وفي هذا الصدد فأطروحاته السياسية تكمن فائدتها الراهنة في كونها ترشدنا على الأقل وتبصرنا إلى ما يمكن أخذه في الاعتبار.
“تلك الأعمال الفكرية والسياسية تم إنتاجها عبر “العقل الجمعي”، من خلال مؤتمرات الحزب ومداولات لجنته المركزية ومكتبه السياسي ومشاركاته الوطنية العامة.”
ولا بد من التنويه هنا إلى أن تلك الأعمال الفكرية السياسية والنظرية تم إنتاجها في معظمها عبر “العقل الجمعي” ومن خلال المؤتمرات العامة الدورية والاستثنائية للحزب وكذلك عبر دورات اللجنة المركزية ومناقشات ومداولات مكتبها السياسي والأمانة العامة للحزب ومشاركة قواعد الحزب وممثليه وإسهاماتهم في المؤتمرات والحوارات واللقاءات التي تمت في الحياة الحزبية الداخلية أو على المستوى الوطني العام.