آخر الأخبار

spot_img

ما سمات القصيدة الجيدة؟

صحيفة الثوري- ثقافة: 

د. عبالحكيم الفقيه

تنفرد الثوري بنشر هذا الاستطلاع حول سمات القصيدة الجيدة والذي شمل مجموعة من الشعراء والشواعر على امتداد اليمن والوطن العربي فشكرا لمن ردوا على سؤال الاستطلاع ولا نلوم او نعتب على الذين لم يردوا فقد يكونوا مشغولين او ليس لديهم وقت كاف

تنشر الردود كما هي تاركين للقراء الاستمتاع بهذه الرؤى التي تمثل مادة ثرية لمعانقة القصيدة الجيدة كما يراها الشعراء

الشاعر والناقد عبدالودود سيف يرى أن :

كل قصيدة تعكس ثقافة ومفهوم كاتبها.

وتصنف وفقا لذلك في قدرتها على استيعاب وجهة نظر كاتبها.وكلم جسدت مفهومه بشكل اوفى تعالت -في نظره – جودتها.وهذا يعني ان جودتها تتفاوت في نظر شاعرها وقيمتها لدى قرائها.

والسؤال الباطني الكامل في سؤالك: ماهو الشعر وماهي معايير جودتها على المستوى الثقافي والنقدي.

والسؤال البديل لسؤالك هو ماهي القصيدة في نظرك وكيف تتحقق؟

——–

الشاعر والأديب بشير المصقري يرى انه :

عندما نقول القصيدة الجديدة فهنا اشكالية مصطلح بحيث يتوزع هذا المصطلح استفسارات و تساؤلات عدة منها مثلا

ماهية النمط الشعري التي تُعنى بها هذه التسمية

فهل يعني القصيدة الجديدة في العمود أم في التفعلية أم في النصوص السردية التي نسميها قصيدة نثر’ لكني سأتحدث بعيداً عن أطر التجنيس و سأعتبر الفضاء مفتوح في مع الإجابة عن سمات وخصائص القصيدة الجديدة إذ أن أهم خصائصها أن تكون قصيدة عابرة المعنى للفجوات الدلالية التي قد تنشأ بين الشعراء وجمهور الشعر بمعنى أن حدوث هوة بين طرفي المعادلة الأدبية شعرياً لابد أن يُخرج القصيدة الجديدة عن مدار الوصول الذي تدور فيه إلى مدى يُمكّن من احداث إضافة نوعية تُمسك بخيط الحداثة وتصنع الدهشة في أنوات المتلقيين عبر قدرات الشاعر و اسلوبه و طريقته في تقديم قصائد ذات أثر عميق في أفق التلقي.

لابد أن تكون القصيدة الجديدة مزدحمةً بالتأويلات و مليئةَ بزخمٍ من الذهول في نفوس القراء و لابد أن يكون هذا الزخم متركزاً على قدرة الشاعر في التركيبات و اللعب باللغة و ترويض المفردات خارج السياق المألوف شرط أن ينفذ المعنى إلى ضفافات سهلة وبسيطة و في متناول محمول بمستوى خطاب جامع يمتد من النخب وينتهى في واحات العوام

وفي اعتقادي أن أبرز سمات القصيدة الجديدة أن تكون بعيدة عن المنبرية وأن لا تكون قصيدة مناسبات فهي قصيدة لا تُكتب كل يوم و لا تُكتب بداعي مرتبط بالتاريخ أو الإرث لأنها قصيدة تظل خارج الجاهزية وتظل في زاوية غير مكشوفة داخل أغوار الشعراء و اقصد أولئك الشعراء الذين يطيلون التأمل و لا يفسرون الظواهر بحسب معطياتها و لا يفتشون في التفاصيل بالتناول الوصفي للقضايا بعد اكتمال ظروف و أسباب ونتائج وقوعها .

القصيدة الجديدة لا تتعدد لها خصائص

و أراها بخاصية واحدة هي فهم الشاعر لطريقة تفكير المجتمع و ادراك مؤشرات الاتجاه النفسي المنبثق عن احساسهم بما يدور حولهم و من ثم فلسفته قبل تحليله و انضاج الرؤية على ايقاع يخاصم الدارج من المفاهيم ويقدمها باسلوب أبسط من القالب الذي قُدمت فيه وهي مازالت فكرة حياتية تتعدد وشائجها من السياسي إلى الاجتماعي إلى الثقافي إلى العلمي ثم تقديم هذه الفكرة أدبيا وشعرياً وقد استخلصت كل هذا التنوع وصهرته في اللحظة الفاصلة بين القول و حقيقة الموقف و بين مالم يُقال في معناه الدلالي وما يجب أن يُقال ولم يُقال

و اضافة إلى ذلك كله فأن القصيدة الجديدة

قد نجدها كل يوم كشعراء في افكار ترفض المواقف وفي مواقف تأخذ من التناقض واللا تناقض و في خطوط حياة مألوفة أورثت الانسان الجمود و للذلك لا نجدها إلا في خلجان من قرأ التاريخ و الاحداث و السيّر ونظر إلبها برؤى ساخرة حين يعقب التأمل السخرية يتمكن الشعراء الذين يعيشون الوقائع بنَفَس يتأمل حتى تثبت الحقيقة ثم يسخرون ولا يؤمنون و لا يتعهدون ..

بل ينقضون ويصادقون و يبنيون ويهدممون على إثر اصغاء لوهج ينير عتمة في نفوسهم سيجدون أن الخلاص قد تبدى لهم ومعه تبدو

القصيدة الجديدة تدفعهم لممارسة التمرد على الثوابت المتوارثة بلا وعي

دون المساس بالقيم الروحية وفي ذلك ينبري التحديث.

لأن القصيدة الجديدة قصيدة روح ولم تكن اسلوب معين و نمط بعينه و شاعر بذاته

وهناك فرق بين الجسد الذي لا يعدو في كينونته أكثر من شكل و بين الروح التي تتجاوز الاشكال إلى ماهو انسيابي و زئبقي

وهذا ما يحتم على الشاعر اتقانه و ادمانه

وفي المجمل ذلك يعني تجاوز الشاعر لذانه اولاً و لاشك أنه بذلك سيقوم بكسر نمطيته والتساوي مع الاقران بوصفهم حالة موازية متراصة في حدود فكرة و على خط واحد لرؤية لا تتطور إلا بتجاوز الذات التي تعني تجاوز الآخرين المحايثين .

******

الشاعر الأردني حسين جلعاد يرى أنه :

حين نتحدث عن “القصيدة الجيدة”، فنحن لا نتحدث عن قوالب جاهزة، بل عن لحظة انبثاق، عن ارتباكٍ جميل يحدث داخل اللغة. القصيدة الجيدة، في رأيي، هي التي تتجاوز الشاعر نفسه أولًا، ثم تتجاوز لغته السابقة، أسلوبه، محدوديته، وحتى وهمه القديم عن الشعر. ثم تتجاوز الأقران، لا بغرض المفاضلة، بل لأن الشعر، حين يكون حقيقيًا، لا يشبه أحدًا، ولا يعيد إنتاج ما قيل.

لقد تعددت المعايير النقدية عبر المدارس والتيارات، وكل منها قدّم مفاتيحه لفهم الشعر وتقييمه. لكن يظلّ المعيار الأصدق، بالنسبة لي، هو: هل خاضت هذه القصيدة مغامرتها الخاصة؟ وهل أنتجت توتّرًا جديدًا بين المعنى والمبنى؟ هل طرقت بابًا لم يُطرَق من قبل بهذه الطريقة؟

أظن أن القصيدة الجيدة لا تُشبِعُ القارئ، بل تُقلقه. لا تُغويه فقط، بل تُوقظه. القصيدة فيها ما لا يُقال تمامًا، وفيها ما لا يُنسى. وقد تكون ناقصة من حيث الوزن أو البناء أو الشكل، لكنها تُحدِث الأثر. وهذا هو جوهر الشعر: الأثر لا الشكل.

بالنسبة لي القصيدة الجيدة ليست وصفةً بل لحظة يلتقي فيها ما لا يُقال بما لا يُحتمل. وقد تكون بيتًا واحدًا يهزك كأنه اعتراف، أو صفحةً كاملة لا تترك فيك سوى رعشة.

أنا لا أؤمن بالقياس الفني المجرد وحده، ولا أحتكم إلى البلاغة الصارمة أو كمال الشكل.

القصيدة الجيدة، بالنسبة لي، هي التي تُوقظ فيك شيئًا نائمًا، أو تُفسد عليك سلامك المؤقت.

إنها تلك الكهرباء التي لا تستطيع نسيانها، حتى لو لم تفهمها تمامًا.

أحب القصائد التي تمشي على الحافة، التي تشكّ بلغتها، وتتعرّض للنار، ولا تُراضي القارئ، بل تُربكه. وقد لا تكون القصيدة الجيدة “جميلة” دائمًا، لكنها صادقة. حقيقية. مخلوقة من طين الحياة، لا من زينة الألفاظ.

*****

الأديب أحمد ناجي أحمد يرى ما يلي

حول السؤال المتعلق بالقصيدة الجيدة

بالفعل سؤال فى منتهى العمق والبساطة والتعقيد ايضا

ما هي سمات القصيدة الجيدة ربما يركز البعض على الخيال المتدفق والعاطفة المتدفقة والجياشه

في حين يهتم البعض بالإيقاع والموسيقى

ويهتم البعض بجدة الأسلوب وأصالته

ويهتم البعض بالموقف الجمالي المنبثق من تفاعل الخيال والإيقاع والموسيقى واللغة

ولكن بالنسبة لي القصيدة الجيدة مثلها مثل القطعة الموسيقية واللوحة الفنية الجميلة

لا أستطيع تفسيرها

يتملكني جمالها ولا أستطيع أن ادخل في اختزال ذلك الجمال في بعض أجزائه

ولذلك أقول القصيدة الجيدة ليست في قوة الخيال وتدفق العاطفة وسمو الموقف وانحيازها للناس وفي تلك الموسيقى الداخلية المنبثقة من معانيها

ولكنها من تفاعل كل مكوناتها الجمالية بحيث تنتصر فتكون النص الشعري الملهم الذي يكتسب جماله من مفارقات لمكوناته الأولى وصيرورته في مكون جديد هو القصيدة.

القصيدة الجيدة أشبه ما تكون بالعسل

لا يقاس بمكونات الأولى والمتمثل بالنحل والورود والأشجار الذي تتغذى منها النحلة

ولكن القصيدة الجميلة تقاس بالمنتج الذي نراه أمامنا ولا علاقة له بمكوناته الأولى ولا يستطيع العودة إلى تلك المكونات

القصيدة الجيدة وعي مفارق لما سبق

وإبداع جديد غير مسبوق يصعب توصيفه بالكلمات

****

الشاعر صلاح الدكاك يرى أن :

الشعر هو حالة عشق بالأساس والشاعر هو عاشق على الدوام… عاشق قلق يتجاوز المرئي في علاقاته بمحيطه الوجودي طمعاً في الإمساك باللامرئي وتظهيره وجودياً بحيث يغدو قابلاً للقياس والرؤية ومتاحاً لمخيال القارىء العادي…وبطبيعة الحال فإن الشاعر لا يستهدف بذلك تقديم خدمة لقرائه بل ينطلق في الكتابة الشعرية من حالة سأم حيال علاقات اعتيادية ساكنة وغير جدلية تطوقه فيكيد لها بتحطيمها حتى يحقق لنفسه اولاً حالة من الانعتاق الروحي والاتزان النفسي ويتخلص من وزنه الزائد الذي يشده بحضيض الواقع الساكن والآسن..

في هذا السياق فإن من العسير تسمية مصدر ما ننسب إليه حالة الإلهام المحرضة على العشق والغرام والمنتجة للكتابة الشعرية و”القصيدة الجيدة”…المرأة في المفهوم السائد مثلاً متهمة بالوقوف خلف جل نتاجات الشعر العربي والحقيقة أنها متهمة بريئة فاللحظة الشعرية لحظة خلق جُوَّانية معقدة لا حالة لصوصية تشحذ موضوعاتها من الواقع المنظور أو من علاقة حب اعتيادية عابرة تنتهي بـ”الرفاه والبنين” وإلا لكان كل البشر شعراء فتجاربهم في هذا السياق-بالقصور الذاتي- واحدة.

****

الشاعرمعاذ حميد السمعي يقول :

الإبداع عامة ينطلق من إنسانية الإنسان ليخترق إنسانية الأجيال،

السمات الحقيقية_في هذا الاتجاه_تقع دائما..

خارج إطار الشكلية ومعيارية المتداول..

/الخروج بإنسانية النص نحو الضوء، ليتلمس مواحش العتمة، أو العكس، بحسب المقتضى..

وتلك أهم سماته..

__

****

الشاعر الدكتور عبدالعزيز علوان يقول :

في تقديري، فإن مفهوم أو مصطلح “القصيدة الجيدة” هو مفهوم نسبي، كون الشعر ـ كما قدمت له ـ هو توقٌ إنسانيٌّ للتنفيس أو للتعبير عن مكنونات النفس؛ ولذا فإن الحكم على جودة القصيدة يظل حكمًا نسبيًا.

بالنسبة لي، فإن جودة القصيدة تكمن فيما تتركه في النفس من أثر فني وجمالي وخيالي في آنٍ واحد، وتكمن كذلك في تفردها الحيوي، واقتصادها اللغوي، وتنوعها التأويلي.

أما من حيث المناهج النقدية، فإن الحكم على أن هذه القصيدة جيدة أو غير ذلك، يخضع لمعايير التحليل النقدي، والتي تختلف باختلاف المنهج والرؤية.

*****

الشاعر السوري خلف علي الخلف يرى ما يلي :

سمات وخصائص القصيدة الجيدة

منذ أن ارتبط الشعر بالإنسان، ظل النص الشعري مساحةً للتعبير الجمالي والمعرفي، وميدانًا للتجربة الإنسانية العميقة. غير أن القصيدة لا تُقاس فقط بكونها منظومة من الكلمات الموزونة أو المنثورة، بل بجملة من السمات التي تمنحها فرادتها وقدرتها على البقاء والتأثير.

ومن وجهة نظري يأتي على رأس هذه السمات الاختزال والتكثيف؛ فالقصيدة الجيدة لا تفيض بالحشو والزوائد، وإنما تلمع كلماتها مثل الجواهر المصقولة، حيث تُختزل التجربة في أقل قدر ممكن من العبارات، دون أن تفقد عمقها أو قدرتها على الإيحاء. فالإطالة الفارغة، مهما زخرفت بالألفاظ، تُضعف الأثر الفني للنص وتجعله أقرب إلى النثر العادي.

ومن أهم الشروط الابتعاد عن العادية في اللغة والأسلوب والفكرة؛ فالشعر، إذا استسلم للمألوف والمكرر، يفقد معناه الجوهري. القصيدة الجيدة تخلق لغتها الخاصة، تصوغ تراكيب مبتكرة، وتستثمر المجاز والصورة الشعرية بذكاء، فتفتح أفقًا جديدًا أمام القارئ، وتجعله يرى العالم بعين لم يرَ بها من قبل.

كذلك، الفكر عنصر جوهري في النص الشعري. القصيدة التي لا تحمل فكرة، مهما كان حجم جمالياتها، تبقى مجرد كلام منمّق، يفتقر إلى الجوهر. الفكرة قد تكون فلسفية، أو إنسانية، أو حتى وجدانية محضة، لكنها تمنح النص بعده الباقي، وتجعله يتجاوز اللحظة العابرة.

ثم يأتي التمكن من الفكرة؛ فالقصيدة التي لا تمسك بخيط فكرتها الأساسي، ولا تبني حوله نسيجًا محكمًا، تتحول إلى مجرد رصف كلمات أو تهويمات مبعثرة. الشعر، مهما كان ذاتيًا أو مجازيًا غامضًا، يجب أن يظل قائمًا على وعي بالشكل والمضمون، وعلى إحساس داخلي بالاتساق.

ومن السمات الفارقة أيضًا قدرة النص على عبور امتحان الزمن؛ فالقصائد التي تتوهج في لحظتها لكنها تخبو سريعًا، لا تمتلك قيمة أدبية حقيقية. أما النصوص التي تحافظ على قدرتها على الإلهام والتأثير، فتلك هي التي تنتمي إلى الشعر الحق، إذ تظل قابلة للقراءة والتأويل في أزمنة مختلفة، وتجد صدى عند أجيال لم تعاصر كاتبها.

إلى جانب ذلك، تتطلب القصيدة الجيدة صدق التجربة، فالشعر الزائف سرعان ما يُكتشف، بينما يظل النص المولود من تجربة صادقة، حتى لو كانت صغيرة أو شخصية، قادرًا على لمس القارئ وإثارة وجدانه. الصدق هنا لا يعني التطابق الحرفي مع الواقع، بل الإخلاص للتجربة الشعورية والفكرية التي ينبع منها النص.

وأخيرًا، وهو ما يمكن تجاوزه في بعض النصوص، لكني أرى أن تجمع القصيدة بين الموسيقى الداخلية والتدفق الإيقاعي، سواء كانت مكتوبة على وزن وقافية أو في إطار قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر، لأن الإحساس بالموسيقى الداخلية للنص وتدفقه دون عثرات هو ما يمنحه نبضه الخاص، ويشد القارئ إلى عالمه.

إن القصيدة الجيدة هي، في جوهرها، نص متكامل العناصر، متوازن بين الشكل والمضمون، بين الفكرة والانفعال، وبين الفردي والإنساني. وهي، قبل كل شيء، نص يترك في القارئ أثرًا لا يزول سريعًا، ويفتح أمامه نوافذ على ما لم يعرفه أو يشعر به من قبل.

شاعر من الجزيرة الفراتية

****

الشاعر والناقد والروائي السعودي حامد بن عقيل يرى ما يلي

ما سمات القصيدة الجيدة؟

بعد سنوات طوال، ودواوين شعرية خمسة، ونصوص منشورة في الصحف والمجلات، ونصوص لم تنشر بعد، لم تعد القصيدة/ الشعر، يعني لي، أكثر من قصيدة النثر. ولأنني لم أعد أثق في التعريفات، فإن الشعر بعمومه لم أعد أعرفه بغير الشعر. المفردة التي ترتد إلى ذاتها، وتفسّر ماهيتها، حتى إنها بعيدة عن الحكمة، فالحكمة هي ما يصل إليه السرد فقط. بينما يعود الشعر جميعه إلى “شعر”، وهذا بدوره أصبح قصيدة النثر وقد تخفّفت من المعنى والحكمة وترهات الشعوب.

كنتُ، في بدايات التحوّل إلى قصيدة النثر، أقول: هي أبرز أشكال الحداثة الشعرية، الشكل الجامع بين حرية التعبير النثرية والتكثيف الشعري. والمتحرر من قواعد العروض التقليدية، لأنه تتأسس على خصائص داخلية؛ كالإيقاع، الصورة، المفاجأة، والانزياح. لكنني في كلّ مرة أتقدم للأمام أفقدُ شيئاً، فتتسع الرؤية، وتنكمش العبارات حتى تلاشت. أتذكر في المرحلة الثانوية أننا درسنا تعريفا للأدب، بأنه: “هو الكلام الجميل، الصادر عن عاطفة، المؤثر في النفوس”، وفي المرحلة الجامعية حين امتحن أستاذنا الجامعي اللبناني الجنسية معارفنا، وعند أول كلمة نطقها طالب في القاعة: الكلام الجميل. ضحك الأستاذ، وقال بنبرة تساؤل عاصفة، حتى وإن كانت هامسة وباللهجة العامية: “شو يا إبني؟ جميل؟ حاط مكياج؟” تلك العاصفة أخذت معها تعريف الأدب، وكل التعريفات. اليوم بتُّ أدرك أن التعريفات، المختصر المبين للسمات والخصائص والممارسات، ما هي إلا عملية خنق، وتمييز لغوي. علينا أن نجرّم كل عمليات التمييز، حتى اللغوي.

لكن ستبقى بعض ماهياتٍ شفيفة تلوبُ داخلي مع كل نص مختلف، أو لحظة شعرية مدهشة: “لا تطرق الباب قبل أن تدخل، فأنت هنا منذ البداية” لكلود روي، أليست هنا قصيدة نثر كثيفة، بلا حشو أو زوائد، كل كلمة لها وزنها، وكل عبارة تؤدي وظيفة، وإيحاء بلا شروح تعليمية طاردة؟ وهناك: “أنا الذي أراقب نفسي وهي تراني” لمارك ستراند، حيث كسر التوقعات، وتوليد المعنى من خلال الانزياح عن المعاني التقليدية، فاللغة تنفتح على المجاز والتداخل الحسي. وهناك: “كل ورقة تسقط، هي جزء من الجملة التي يحاول الخريف كتابتها” لروسيل إدو، كوحدة فنية متماسكة. لا تتبع تسلسلاً منطقيًا، لكنها مبنيّة حول مركز شعوري هائل. ومن مثل: “سماء، سماءٌ مكسورة، سماءٌ تُجمع من أجزاء الليل” لكلود إستيبان، وقد تشكّلت إيقاعات داخلية ناتجة عن التكرار، والانقطاعات. وهناك: “الشجرة تفتح نافذتها وتُشعل سيجارة الغابة” لجاك بريفير، للتشظي والانفتاح الرمزي. وهناك: ” أقف أمام المطبخ الفارغ، كأنني أنتظر تاريخ البشرية كي يُقدّم لي طعامًا” لتشارلز سيميك، كصورة مبتكرة لا تعترف بتوريات الأجداد، وهناك: “الرجل الذي كنتُه هرب مني في محطة القطار” لهنري ميشو، وكأنها قصة، ولكنها ليست كذلك، لأنها حوّلت الحدث إلى طاقة شعرية. ومن ذلك: ” كما في لوحة لمونيه، يذوب كل شيء أمام عيني، حتى مشاعري” لجون آشكيري، التي تتشابك مع الفنون. وهناك: “أفكر فيك كقطة تقفز في قلبي وتنام” لريتشارد براوتيغان، بعيداً عن الوزن والقافية، وبعيداً عن الفوضى كذلك؛ بسبب أن هنا شيء يتخلّق بخصوصية كاملة. وهناك: “نشيج النافورة النابض – مثل هذا دمي/ يقيس تدفقه، كما يبدو أحيانًا./ أسمع همهمة لطيفة بينما تتدفق؛/ أين يقع الجرح لم أفهمه أبدًا./ مثل مروج المياه، تغمر المياه الشوارع./ أحجار مرصوفة، تتقاطع مع الجداول القرمزية،/ إنها جزر، تأتي إليها المخلوقات وتشرب حتى تشبع./ لم يعد هناك شيء في الطبيعة يبقى بلا دماء./ كنت آمل أن النبيذ يمكن أن يجلب لي الراحة،/ يمكن أن يهدئ عقلي المتعب من النوم./ لقد كنت أحمقًا: الحواس صافية بالنبيذ./ لقد نظرت إلى الحب لعلاج مرضي القديم./ قادني الحب إلى غابة من الوريدات/ حيث الإبر المشتعلة تتوق لكل وريد” لشارل بودلير. وكأن زجاجا بارداً ورحيماً يتسرّبُ في عروقك، سيبقى ويتكاثف، كحصولك على مخدّر فنّي لا يضر، وجمالي يجعلك تحيط بالعالم من أقصاه إلى أقصاه.

أليست هذه هي القصائد الجيدة بكامل سماتها؟ الحياة اللغوية الصّرفة بمختلف تجلياتها؟ بلا تعريفات، ولا حصار. وأيضاً، بلا يقين يجعل دماء اللغة تسيل على عتبات المستقبل، وعلى أطلال الأزمان الغابرة.

*****

الشاعر يحي الحمادي يقول ؛

في البداية، لا بد من الإشارة إلى حقيقةٍ شبه يقينية، وهي أنّ الشعر صنفٌ من الصناعات الإنسانية التي لا يمكن أن نضع لها مواصفات ومقاييس محددة، نستطيع من خلال الالتزام بها الحصول على الدرجة المرجوّة من الجودة، ذلك أننا لم نجد إلى يومنا هذا تعريفًا دقيقًا ونهائيًّا للشعر، كي نتمكن من الرجوع إليه في الحكم بين الجيد منه وغير الجيد، فكل المدارس الفنية والنقدية -القديمة والحديثة- ظلت تنظر إلى الشعر من زاوية واحدة مواجهة لها، جاهلةً أو متجاهلةً بقية الزوايا؛ وكل التعريفات -القديمة منها والحديثة- أيضًا عرّفت الشعر بما يلائم عصرها وحدود إمكاناتها، فقد منح العربُ الشعرَ تعريفًا أقربَ ما يكون إلى البنية الشكلية، مع مراعاتهم لبعض الاشتراطات البديعية التي من خلالها يُعرَف الشعر من غيره كصنف أدبي، وذهب غيرهم إلى تعريفه أنه تجربة داخل اللغة، لا تُتَرجَم ولا تُختَصَر؛ وبين هذين التعريفين بَقيَ الشعرُ واقفًا على أطراف أصابعه، وأجنحته تملأ الفضاء.

وما دمنا إذن لم نستطع أن نضع الشعر في تعريفٍ دقيق وشامل، نستطيع من خلاله الموازنة فسنظل نتساءلُ مع الشاعر: (ما هو الشِّعرُ؟! إنني ما وَجَدتُ اثنينِ إلّا وفيه يَختصمانِ)، وتبعًا لذلك سيظل تعريفنا للقصيدة الجيّدة قاصرًا أيضًا، مهما أسهبنا في تعديد وتحديد سماتها وشروطها، ولكنّ هذا بالتأكيد لا يعني أن الأمر متروك للصدفة، أو العشوائية، فالقصيدة الجيّدة ليست مطموسة الملامح، ولا باردة المشاعر، إنها لا بد أن تحمل معها أسبابَ تميزها، وتكشف ولو عن جزءٍ من أسرار جمالها، ومكامن جودتها.

وقبل محاولة الخوض في سمات القصيدة الجيدة، أرى أنه من الضروري أن نسأل أنفسنا: لماذا أجاد شاعرٌ في قصيدةٍ وأخفق في أخرى، ولماذا تَميّز شاعرٌ عن شاعر آخر، ولماذا بقيَت قصيدةٌ، ونُسيَت أخرى؟! هناك شعراء لم يشتهروا إلا ببيت واحد، وهناك من لم يكتبوا غير قصيدة واحدة، لكنها عاشت بعدهم لأعوام وقرون، وبالمقابل هناك من خلّفوا وراءهم مئات وآلاف الأبيات، لكنهم لم يستطيعوا أن يصلوا بها إلى أحد؛ ثم لماذا يميل الناس أحيانًا إلى قصائد لا تحمل من شروط القصيدة الجيدة الكثير ولا القليل، بينما ينفرون من أخرى اجتهد أصحابها كثيرًا، وأخذوا بكل ما اعتقدَوا أنها “سمات للجودة”؟!

مِن خلال الوقوف على مثل هذه الأسئلة يمكننا أن نبدأ اكتشاف أن الشعر ليس عملية حسابية معلومة الخطوات ومضمونة النتائج، ولا طريقًا سالكًا ينتهي بكل سائر إلى غايته، كما أنه ليس جنونًا خالصًا، ولا تعقلًا محضًا، وليس كلامًا صادقًا وحسب، ولا شعورًا زائفًا، ولكنه خليط من المتناقضات الكثيرة التي لا يتمكن من القبض عليها، والجمع والمواءمة بينها، إلا القليل النادر من الشعراء، والشاعر يعلم أكثر من غيره كيف أنه في لحظة إلهام قد يكتب -دون أي عناء- ما لم يستطع أن يكتبه في أيام وشهور.

ليست هناك إذن وَصفةٌ جاهزة لصناعة شعر جيد، ولكنها لحظة خلق استثنائية، تُـقدَّم في بناء متين، غير ميّال إلى الغموض السيريالي، ولا التقرير الصحفي، كما يمكن القول إن القصيدة الجيدة وليدة مزيج من الإلهام، والابتكار الفني، والتماسك اللغوي، والقدرة على التأثير، وإذا جاز الحديث عن الجودة في المعايير الفنية والجمالية، فالقصيدة الجيدة في اعتقادي لا تنبع إلا من تجربة شعورية صادقة، أو على الأقل من إحساسٍ داخليّ يساوي عيش التجربة، لأن القصيدة التي تفتقر إلى الصدق لا تبدو للقارئ إلا مصطنعةً ومتكلفة، مهما بلغ صاحبها من الإتقان، ومهما امتلك من الأدوات الفنية والتلاعب اللفظي، ولا أعني بالصدق هنا أن تكون سيرةً ذاتيةً مصوّرة، بل أن تكون صادقةً فنيًّا، وأن تقنع المتلقي بحقيقتها الخاصة داخل منطقها الشعري، لأن التجربة الصادقة هي من تشحن الكلمات بطاقةٍ وجدانية أشبه بالسحر، تصل من خلالها إلى قلب المتلقي دون أية وسائط أو عوائق، وتكون قابلةً للبقاء في ذاكرته، مهما تقادم عهدها؛ وقد تكون فكرةُ هذه القصيدة بسيطةً، ولغتها غيرَ عميقة، وشاعرها مغمورًا، لكنها كتبت وقُدّمت بروح الصدق، فشعَر القارئ أنها لامست جوهره، وقالت أشياءَ كان يتمنى أن يقولها ولم يُفلح.

القصيدة الجيدة إذن كائن حيّ، قادر على أن يخلق عالمًا صغيرًا داخل عقول وقلوب القرّاء، ومن سماتها الفنية التي يجب أن تمتلكها أيضًا: (الصورة الشعرية) فالقارئ المعاصر يملّ من الخطابة والمباشرة الزائدة، والقصيدة الجيدة تحترم ذكاءه، وتدع له مجالًا للتأويل، ولكن دون أن تهبط به إلى الإسفاف، أو تتركه عالقًا في متاهة الغموض المفرط، ولأن الصورة الشعرية إعادة صياغةٍ للمألوف برؤية غير مألوفة، فإن الإبداع فيها لا بد أن يعني القدرة على ربط المتناقضات دون اعتساف، وإضاءة الزوايا المهمَلة من المشهد، وتقديمها بطريقة ملفتة للانتباه ومثيرة للدهشة، خاصة ونحن نعيش عصرًا “القبض على أرنبٍ بريّ فيه بات أسهل من القبض على قارئ”، كما يقول ماركيز، وأمام الشاعر المعاصر فيه تحدّ كبير كي يستطيع القبض على من يقرأ له وسط هذا السيل الهائل من وسائل التواصل وهذا الكم من المواضيع والكتابات المتعددة.

****

الشاعر الدكتور عبدالسلام الكبسي يختزل رؤيته في القول بأن

سمات القصيدة الجيدة

أن تكون قصيرة و معبرة وتشع بالحكمة.

****

الشاعر حمود الجائفي يقول :

القصيدة الجيدة تمتاز بجدة البناء تتناول جوانب عامة لا تخرج عن القواعد العامة للأشكال الشعرية وتتجنب الضرورات والتكلف تكون مفرداتها وأفكارها وصورها بعيدة عن الاستعمال اليومي قريبة من إحساس المتلقي ومتناسقة مع صورها ورموزها ليست مقلدة ونابعة وفكرتها تعبر عن مشاعر حقيقية وصادقة تتصف بالوضوع والغموض أحيانًا تتعدد أساليبها مترابطة ومتماسكة تنبع من روح جميلة ولحظة جميلة تفتتح وتنغلق بالإثارة والدهشة

****

الشاعر أحمد عباس يرى أن :

القصيدة الجيدة ليست بنت المصادفة ولا هي مجرّد ترف لغوي أو استعراض بلاغي. إنها كائنٌ حيّ ينبض بالصدق ويتشكّل من تجربة حقيقية أو رؤية عميقة للوجود إنها لحظة توهّجٍ يلتقي فيها الوعي باللغة مع الوجدان ويُصاغ فيها الألم أو التأمل أو الرؤيا في قالبٍ يحرك القارئ من الداخل.

وفي تقديري أن القصيدة الجيدة يجب أن تنبع من شعور حقيقي يتسم بالصدق الشعوري وينتجه القلق الوجودي الذي يحرك الشاعر للكتابة من الأساس، وأعتقد أن التجربة كلما كانت شخصية وتعبر عما هو إنساني، أيا كان، تكون أقرب للإجادة.

هذا من ناحية الوجدان والعاطفة التي هي بمثابة الوقود المحرك للشاعر للتعبير عما تجيش به نفسه.

تأتي في المقام الثاني-اللغة- والتي هي الأداة التي يعبر من خلالها الشاعر ويترجم عواطفه، واللغة ليست أداة للزينة، بل هي الصورة النهائية والقالب الرئيسي للتعبير، القصيدة الجيدة تصنع لغتها، وهناك فرق بين أن تُجيد استخدام اللغة، وأن تُجيد إنطاقها بما لم تقله من قبل.

وسواء كتبت القصيدة في إطار التفعيلة أو قصيدة النثر أو العمود، يظلّ الإيقاع الداخلي هو الإيقاع الخفيّ إيقاع الشعور وترابط النَفَس الشعري علامة أساسية على نضج النص.

ومن سمات القصيدة الجيدة الاقتصاد الكثيف.. القصيدة الجيدة لا تثرثر، كل كلمة فيها موظفة، كل صورة مقصودة.

إذا توافرت هذه العناصر فإن النص يدهش قارئه دهشة تترك أثرا واضحا عليه.

*****

الشاعر محمد عبيد يقول :

القصيدة الجيدة يا صديقي، تُقاس بما تتركه من أثر في الروح. هي الكلمة حين تخرج من فم الشاعر وكأنها خرجت من فم الأرض، تشبه الصرخة الأولى للمولود: لا أحد يعلّمها كيف تكون، لكنها تحدث وترجّ الكيان.

القصيدة الجيدة هي التي تجرؤ على كسر مراياها، لتُريك وجهك في ماء آخر لم تعرفه. هي التي تُشبه قلبك أكثر مما يشبه قلبك نفسَه، وتفاجئك بصدقها العاري أكثر مما تدهشك بزخرفها الباذخ.

إنها مغامرة في اللغة، ورحلة في ليل المعنى، تعود منها القصيدة بقبس من نور أو بندبة من جرح، وفي الحالتين تظل حية. ليست هناك وصفة تصنعها، فكل وصفة تفسدها، لكن إن كان لها سر، فهو قدرتها على أن تتجاوز .. أن تتجاوز لحظة الشاعر الضيقة، لتصير لحظة إنسانية أوسع، وأن تتجاوز أصوات الآخرين، لتجد لها نبرة لا يخطئها سمع.

القصيدة الجيدة باختصار، هي التي تقرأك قبل أن تقرأها، وتكتبك من حيث تظن أنك أنت من كتبها.

*****

الشاعر محي جرمة يقول ما يلي :

ما سمات وخصائص القصيدة الجيدة؟

اعتقد من سمات القصیدة الجدة والمغایرة والانزیاح الدلالي للصورة الشعریة.الحفر والابتکار. والموهبة قبل کل شیء.ان یقدم الشاعر في قصیدته خزعة من روحه وروح اللغة ومن جمال اللحظة وکشوفاتها.اذا لم یذهب الشاعر في قصیدته نحو الجدة والابتکار والاختلاف لا التشابه. فما وجه الصفة لقولنا مثلا:” قصیدة جیدة” واذا من این يتأتی الشغف القراٸي للقصیدة ان لم تلفت عناصرها ولغتها وصورها وبنیتها العضویة الی تشظیات وتناقضات وتقاطعات ولا توقع فی التعامل مع اللغة واللحظة بسمات التغایر والدفء وجمالیات الشعري الذي تبسطها ” القصیدة الجدیدة” لیس فحسب من قبیل ” التجاوز” ولکن لان الشعر هو ما یلفت دوما فی اختلافه ولا توقعات القارٸ عند اصغاء الحواس وترکیزها.

القصيدة “الجيدة” وسماتها ليست مجرد استعادة لتعريف ثابت أو صيغة ناجزة، بقدر ما هي استدعاء لتجارب الشعراء، وسماتهم وبصماتهم.لا ظلالهم المتشابهة. وما تبثّه القصيدة من أثر وحساسية عالية في اللغة والتصوّر يحیل الی سمة من سماتها. فالقصيدة الجيدة، في جوهرها، سمِة للابداع.وبه ومن خلاله. وليست فقط نصًا موزونًا أو منتظمًا أو ممتثلًا لجماليات الشكل، بل هي كائن لغوي حيّ ينطوي على توتّر، ودهشة، وتحوّل، ومفارقة.

ذلک انها کقصیدة لا تشبه غيرها، ولا تشبه حتى الشاعر نفسه في تجاربه السابقة. إنها تصنع انزياحها الخاص، وتفاجئ قارئها بانعطافاتها الدلالية، ومجازاتها الغير مألوفة، وتوليدها لصور لم تخطر على قلب البلاغة التقليدية. الجِدّة هنا ليست ترفًا بل شرطًا لجمالیات ترتقي بذاٸقة الشغف الی رٶية اوسع واکثر تجلیا وابهارا.

کما ان القصيدة الجيدة ما يشعرك أن شيئًا قد اختلّ داخلك بعد قراءتها. أن تصيبك رجفة ما، أن تربك يقينك الجمالي المعتاد. کما قد تفعل بعض صورها فالشاعر يسكب شيئًا من دمه في القصيدة، من توجّعه الشخصي، من انخطافه اللحظي، من شظايا ذاته السیالة التي لا تبوح بسهولة.

وحتى في أكثر أشكال القصيدة حداثة وتشظيًا، تبقى البنية الداخلية عنصرا مهمًا. لذوات مرایا الشاعر وانعکاساته المحلقة فالقصيدة في جدتها وحداثتها الاصیلة سمِ لا تُختزل في بيت او مفارقة أو صورة مدهشة فحسب، بل في تماسكها الكلّي، وفي قدرتها على تحقيق وحدة حسية وشعوریة لا ترى خطوطها بوضوح ولكنك تستشعرها.

في الشعر، الكلمات لا تُستخدم سوی بطاقتها وما تحدثه من قوة جوانیة لا بکثرتها او احتشادها.او حضورها المهرجاني الزاٸف.والمطبل غالبا. كل كلمة يجب أن تكون ضرورية، مشعّة،کل صورة مشبعة بجمال وجاذبیة.بلا حشو ولا معاد ولا مکرور. القصيدة الجيدة تعرف كيف تصمت، كما تعرف كيف تتكلّم.

والشاعر الجيد اذا بالمقابل لا يكتب ما يعرفه فحسب، بقدر ما يغامر باتجاه ما لا يعرفه. القصيدة الجيدة افق معرفي وفلسفي لوجودات ماحوله.تفتح مغاليق داخلية، وتضيء مناطق ظلّ في الذات واللغة والوجود. إنها ليست محاكاة لما قيل، بل حفريّة فيما لم يُقَل بعد.

وهي لا تعني أن تكون صريحة أو مباشرة، لكنها لا تكون مصنوعة أو مزوّقة عن عمد بزخرف قول مفتعل کما نشاهد ونلمس غالبا ماتترکه فقاعات بالون الشعر المهرجانیة في الهواء من انتفاخات سرعان ما تنفجر ویذهب ضجیجها .لابد وان تکون القصیدة ملقحة بصدق فني وشعر یتسرب من بین ثنایاها واوردتها، من ذلک الالتماع الداخلي، من خفقة الصمت بين سطر وآخر.

الجمال في القصيدة لا يكون کذلک بمعناه الزخرفي أو التقليدي،بقدر ما يدهشك أحيانًا عبر قبح ما فی صورة ما، أو تهكم، أو ألم، أو فقد. إنّها قصيدة تفكر بجمالٍ مغاير، کما تصنع ذائقتها الخاصة.

وهي ليست وصفة، بل حالة ساٸلة من الصور والاخیلة المتخففة من انثيالاتها وغناٸيتها الفارطة.ویکون لأثرها مفعول الجذبة كأنك كنتَ مخلوقًا قبلها، وصرت مخلوقًا آخر بعدها.

****

الشاعر جميل حاجب يقول :

أنا لا اهتم كثيرا للتنظير للقصيدة الجديدة

وعندما اكتب القصيدة لا افكر مطلقا بذلك

القصيدة الجديدة الجميلة تعبر عن نفسها أن تملك سحر ذاتي

قرأت لشاعر صيني ذات مرة ” القصيدة التي تخلو من البساطة والصدق واضيف أيضا والعمق ليست قصيدة ”

ولكن القصيدة التي تكتب بلغة بسيطة وعصية وصدق تبدو صعبة جدا للكثيرين

ولا يتقنها سوى شاعر متمكن .

****

الشاعر والناقد والروائي أحمد السلامي يرى أن :

جودة القصيدة هكذا بالمطلق مفهوم عائم ونسبي ولا يمكن الجزم بوجود إجابة واحدة أكثر إقناعا من غيرها بهذا الخصوص. وفي السؤال ما يشير إلى أن الشعر عوالم وليس مسارا تعبيريا بوجهة واحدة لا بديل لها.

بالنسبة لي ترضيني قصيدة التفعيلة بشروطها التي أظنها استقرت واكتفت بالجمع بين موسيقى التفعيلة وتحقيق الاندهاش الذي يجمع بين سحر التموسق لذاته وبين متن القصيدة وخطابها. وترضيني أكثر قصيدة النثر باقتراحاتها المفتوحة وجوهرها القائم على عصيان كل شيء من ثبات الشكل إلى وجهة الخطاب ومن الانشغال تارة بالتفاصيل الصغيرة إلى التماهي مع جماليات البوح والكشف وصولا إلى جلد الذات والعالم.

مبدأ هدم القوالب وخيانة كل نبرة شعرية مستقرة والتحرر من المعايير في قصيدة النثر يفتح المجال أمام جودة متحولة ومتجددة للقصيدة لا تستقر على معيار وهذه الحركية طبيعة الفن الإنساني المتجدد. حتى أن قصيدة النثر تتجاوز نماذجها كلما استقرت. فقصيدة النثر في الستينيات والسبعينيات غيرها في التسعينيات وما بعدها.

لذلك أقترح إعادة صياغة السؤال إلى ما الذي يجعل قصيدة النثر جيدة وفي حالة تحد مستمرة وتنقيب عن الشعر العاري كما لو أنه جمال فطري ليس بحاجة إلى قواعد سوى أن يكون شعرا؟ لأن الجودة في قصيدة النثر تتجلى في قدرتها على خلق شروطها وشعريتها المتحولة بمعزل عن هيمنة القالب كما في أشكال الشعر الراسخة. وأرى ان من ملامح جودة قصيدة النثر تقديم صور شعرية جديدة وهامسة تتحقق في القراءة الكلية للنص ولا يمكن تحقيقها بسهولة في الأشكال الشعرية التقليدية كما أن اللغة المستخدمة في قصيدة النثر لغة نثرية في مظهرها لكنها مشحونة بشعرية عالية قادرة على كسر المألوف. أيضا انطلاق قصيدة النثر من تجارب ذاتية لا تطمح في أن تكون لسان حال الجماعة يجعلها تلتقي مع الذات المعاصرة بدون ضجيج وبدون افتعال مواقف عمومية صارخة. قصيدة النثر تصبح جيدة عندما تدهشك وهي لا تستند إلى أي من أدوات الشعر التقليدي.

*****

الشاعر المصري حسونة فتحي فيقول قصيدته التالية تكتنف رؤيته للموضوع

الانفجار العظيم

كل ما عليك فعله

أن ترجع للماضي البعيد

إلى لحظة الانفجار العظيم

تلك اللحظة المجهولة المبهمة

قبل بدء الخلق

تلك اللحظة ذاتها

مرت بك في الماضي القريب أيها الشاعر

أو هكذا تظن

للشعر

لحظة انفجاره العظيم

التفتت والتباعد والانطلاق

لذرّاته ومكوّناته الأولية

لتصير، على مهلٍ، مجرّةً

أو شمسًا أو جُرمًا من أجرامها

كوكبًا أو كويكبًا أو نيزكًا أو مذنّبًا

أنت فقط من يمكنه أن يحدد النتيجة

دون نقدٍ أو تفكيكٍ أو بنويةٍ أو مناهج

ستكتب يومًا قصيدتك الأهم

لا اللغة، ولا الأسلوب، ولا التجربة

ستجعلك تنال مطلبك

فقط عليك أن تكتب

وستصرخ يومًا؛

حين تكتب قصيدةً تمزّق أحشاءك وأطرافك

: إنه الشعر

وإنها لحظة الانفجار العظيم.

.

****

الشاعر الدكتور احمد الفلاحي يرى انه :

حين نتحدث عن القصيدة الجيدة فنحن لا نتحدث عن وصفة جاهزة أو قالب تقني محدد بل عن كائن لغوي يتنفس خارج السياق ويخلق لنفسه شرط وجوده، لا أرى القصيدة بضاعة تعرض على رف الذائقة ولا زركشة لغوية تُعرض لإعجاب المتلقي فالقصيدة الجيدة ليست ما يُقال بل ما يحدث داخل اللغة ما يُفجر اللغة من داخلها ويجعلها تخرج عن طاعتها لتقول ما لم يُقل وتكشف ما لم يكن مرئيا. منذ سنوات وأنا أشتغل على تصور خاص حول القصيدة أراه ضرورة وليس خيارا هذا التصور لا ينطلق من الذائقة ولا من المعايير الجمالية الكلاسيكية بل من فهم أعمق للقصيدة بوصفها نظاما أنطولوجيا معرفيا ذاتي التوليد، القصيدة ليست تعبيرا ولا وثيقة ولا حتى شعورا. القصيدة الجيدة هي نسقٌ يُنتج ذاته ويفرض حضوره داخل اللغة دون أن يستند إلى شيء خارجها حين أكتب لا أبحث عن شكل جميل ولا عن تجربة مؤثرة بل ألاحق ذلك التوتر الذي يجعل اللغة ترتج وأنا أؤمن أن كل قصيدة جيدة تُكتب من نقطة توتر لا من نقطة وضوح، من جهة لا أعرفها لا من ذاتي بل مما تكشفه اللغة حين أترك لها القيادة. ليست القصيدة الجيدة سردا ولا وصفا بل حدث لغوي يتولد من عمق القلق من عمق الحاجة لا لنقول بل لنفهم لا لنفهم بل لنُخِلَّ بالفهم. القصيدة الجيدة عندي هي التي تضعك أمام مرآة لا ترى فيها وجهك بل ترى ما خلف الوجه ما لم تكن تراه أو حتى تعترف به القصيدة الجيدة تهزك لا تُطمئنك تفتح فيك ثغرة لا تسدّها تتركك في قلق جميل في ارتباك محبّب في يقظة لا تعرف بعدها نوما. وحين أقول إنها جيدة لا أعني أنها متقنة أو منجزة بل أعني أنها ضرورية، ضرورية كأنفاسك كقلقك كعزلتك كحبّك، القصيدة الجيدة لا تأتي لتملأ فراغا بل لتفتحه ولا تأتي لتُرضي بل لتوقظ لا تأتي لتكرر بل لتتجاوز لتُربك لتضيف إلى اللغة لا من خلال المعنى فقط بل من خلال الحضور. هي لا تشتغل ضمن منطق الجمال بل تُعيد تعريف الجمال القصيدة الجيدة لا تُحسن قول الأشياء بل تُغيّر طريقة إدراكها تُعيد ترتيب الوعي تُحدث خلخلة تُربك التراكيب المتوارثة تُسائل الزمن تُسائل اللغة نفسها وحتى الزمن فيها ليس زمنا خطيا بل لحظة خارجة عن القياس مكان لا يُسكن صوت لا يُقلّد إحساس لا يُستعاد. ولأنها كذلك فهي لا تُكتب من وعي الشاعر بل من قلقه من جهله من تجاوزه، القصيدة الجيدة تكتب الشاعر لا العكس هو فقط وسيلة لاكتشافها وليس منبعها يكتبها لا لأنه يعرف بل لأنه يجهل وكلما ازداد جهله ازداد اقترابه من المعنى. القصيدة الجيدة لا تُشبِه إلا نفسها لا تشبه نصا سابقا ولا تُنتج نسخة من صوت قديم بل تنبثق كما ينبثق صوتك حين تتكلم وحدك في غرفة مظلمة، كل قصيدة جيدة تمتلك صوتها وملامحها وهويتها لا تستعير ولا تُقلّد لا تُنشد لتُصفق بل تُقال لتُحدث ذلك الشيء الغامض الذي لا نعرفه ولكنه يُربكنا ويُغيرنا.

وحين نسأل كيف نعرف أنها جيدة أقول لا تسأل إن كانت أعجبتك بل اسأل إن كانت قد أثّرت فيك إن كانت قد غيرت شيئًا فيك حتى لو لم تعرف ما هو إذا وجدت نفسك تفكر بعدها بطريقة مختلفة إذا أحسست أنها لامست شيئا لا اسم له فيك فأنت أمام قصيدة جيدة. وهكذا أراها القصيدة الجيدة ليست شكلا ولا صوتا ولا إتقانا بل ضرورة وجودية تتجسد داخل اللغة ثم تنفصل عن صاحبها وتعيش حياتها المستقلة

****

الشاعر علي شملان يقول :

بدايةً أبدأ بقول النقاد في وصف القصيدة الجيدة

( الشعر ما كان مفيدا ممتعا ) اي مفيد في موضوعه ، وممتع بتراكيبه وتصويراته ، بعيدا عن التعقيد اللفظي ، والتعقيد التصويري …

فالقصيدة الجيدة تتميز بمجموعة من السمات والخصائص التي تجعلها مؤثرة ومميزة، وتشمل هذه السمات: العاطفة الصادقة، والفكرة الواضحة، والخيال الخصب، واللغة القوية، والوحدة الموضوعية، والوزن والقافية المناسبة، بالإضافة إلى القدرة على التأثير في المتلقي.

تفصيل السمات والخصائص:

العاطفة:

القصيدة الرائعة تنبض بالعواطف الصادقة التي تلامس قلب القارئ وتجعله يعيش التجربة الشعرية.

الفكرة:

يجب أن تحمل القصيدة فكرة واضحة ومحددة، وأن تكون الأفكار الجزئية متسلسلة ومنظمة.

الخيال:

الخيال الخصب يضفي على القصيدة جمالًا وقوة، ويجعلها أكثر تأثيرًا وإثارة.

اللغة:

اللغة يجب أن تكون قوية وجزلة، وأن يتم اختيار الألفاظ والعبارات بعناية لتناسب المعنى والموضوع.

الوحدة الموضوعية:

القصيدة يجب أن تدور حول موضوع واحد، وأن تكون الأبيات متماسكة ومتسقة في إطار هذا الموضوع.

الوزن والقافية:

الالتزام بالوزن والقافية المناسبة يضفي على القصيدة إيقاعًا موسيقيًا جذابًا.

التأثير على المتلقي:

القصيدة الرائعة يجب أن تترك أثرًا في نفس القارئ، وأن تدفعه للتفكير والتأمل.

بالإضافة إلى هذه السمات، هناك عوامل أخرى تساهم في جمال القصيدة، مثل:

الصدق:

القصيدة يجب أن تكون صادقة وتعبر عن تجربة حقيقية للشاعر.

الأصالة:

القصيدة يجب أن تكون مبتكرة وغير مقلدة، وأن تحمل بصمة خاصة للشاعر.

التجديد:

القصيدة الجيدة تتجدد مع مرور الزمن، وتظل قادرة على التأثير في الأجيال المتعاقبة

.

****

الشاعر والكاتب محمد عبد الوهاب الشيباني يرى :

بالنسبة لي ليس هناك معيارية محددة لجودة النص سوى تذوقه كمنتج أدبي يأخذ متلقيه إلى منتهى الدهشة، فلا معماره وشكله هو الفاعل في عملية استقباله ، الأهم عندي هو موضوع النص وفكرته ولغته القادرة على النفاذ.. هناك قصائد بيتية مسبوكة البناء قد تحشد كل جواهر القاموس الشعري المتداول، وهناك قصائد وزن (تفعيلة) رفيعة التطريب عالية الغنائية، غير أني قد لا اتذوقهما بالمرة، لإحساسي أني سبق وقرأتهما في تجارب متعددة، كموضوع ولغة ومعالجات جمالية، واذهب تلقائيا إلى نص متحررة القالب انتج شخصيته الخاصة خارج الأوزان البيتية والتفاعيل الحديثة، بلغة غير معنية بإنتاج الصورة الشعرية النمطية، وبمقابل ذلك ايضاً ينتابني إحساس أن بعض النصوص التي تنتمي للشكل الشعري الذي اتشيع له، وأراهن عليه ( قصيدة النثر)غدت من كثر الاستهلاك والقولبة نصوصاً بلاستيكية وخشبية لا يمكن استساغتها وهضمها.

باختصار سمات وخصائص القصيدة الجيدة هي تلك التي تحدث فيك أثراَ للتلقي، وتقودك إلى لحظ الانفعال بها والتفاعل معها بغض النظر عن الشكل الذي كتبت به، أو الاسم الذي انتجها.

***

الشاعرأوس مطهر الإرياني يرى أنه :

لو كان هناك تعريف واحد للقصيدة الجيّدة لما كانت جيدة لأنها ستكون قد كُتبت مِرارا.

إن مسألة الاتفاق والاختلاف تُقاس فقط في المسائل المادية، والقابلة للقياس والحساب. أما في المشاعر، والأذواق، والأهواء فهي أمور نسبية خاضعة لتفضيلات لا يمكن الحجر عليها بالرأي والمنطق والحُجّة.

سأضرب لكم مثلا يوضّح الغاية من هذه المقدمة. “الستّ” أم كلثوم. الصوت الذي لا يختلف عليه اثنان. لا تستهويني ولا أحبّ سماع أغانيها، فهل معنى هذا أنّها بنظري “ليست جيّدة”؟! طبعًا لا.

أم كلثوم جمعت كلُّ ما يمكن أن يسعى إليه مغنٍّ. ابتداء بالصوت القوي المتمكّن الواسع المدى. مرورًا بالحسّ المرهف في اختيار الكلمة واللحن، وانتهاء بذكاء اجتماعي جعل منها شخصية محبوبة ومتميزة.

فهل معنى ألا أسمعها أنا أو غيري من الناس أنها “ليست جيدة” بالنسبة لنا؟!

لا، فتعريف “الجيّد” في الأمور التي تخضع للأهواء يستند على مفهومين:

1- مفهوم المنطق أو المعادلات الحسابية: فالقصيدة الجيدة قد يحدّد لها النقّاد عددًا من المعايير -على سبيل المثال فقط- يجب أن يصاحبها الخيال، وأن تكثر فيها الصور، وأن تكون كلماتها عذبة ومسبوكة إلى آخره من الصفات التي قد يختلف البعض حول ترتيبها والمفاضلة بينها لكن أكثر الناس متفقون على عناصرها الأساسية.

2- مفهوم ملامسة الروح: وهنا يكمن مربط الفرس، فهناك من الكلام ما يلمس روحك، فتعجب به، وإن كان هناك ما يفوقه في سلّم الدرجات إذا أحصيت “النقاط” حسب المفهوم الأول المعتمد على عناصر القوة في القصيدة، فالمسألة ليست امتحان لغةٍ، ولا امتحان صور شعرية، ولا تحرّي وزن وقافية. هي شيء من كل ذلك.

ما أريد قوله ببساطة أننا قد نقرأ قصيدة فيها كلّ ما يجعلها “جيّدة” لكنّنا نمرّ عليها كما تمرّ عيوننا على إعلان إيجار يخت في المحيط الهندي، ونقرأ قصيدة عادية من حيث عناصر القوة ومفهوم المنطق لكنها تجذب انتباهنا كالإعلان عن صرف مرتب نصف شهر. قد يكون ذلك نتيجة عوامل غير قابلة للقياس المجرد مثل التعبير عما في دواخلنا، أو الصدق في المشاعر، أو الحاجة أو دعوة الوالدين! إنّ هذه “الخلطة” التي تتكون منها أي قصيدة تنقصها البهارات السرية التي لا يعرف مقاديرها أحد من جهة، وتختلف من شخص لآخر من جهة ثانية.

يجب التفريق بين “أحبّ” و”لا أحبّ”، وبين “صحيح” و”خاطئ”، فوجود أخطاء نحوية مثلا في قصيدة يجعلها سيئة حتى ولو قال البعض “أعجبتني”، فهنا الأمر لا يتعلق بالجيد والسيء من الناحية الذوقية، بل يتعلق بالصحيح والخطأ الذي نحتكم فيه للقواعد.

ربط البعض بشكل متطرف بين “الشاعرية” و”الشعر” لدرجة جعلتهم يعتبرون أغراضا مثل المدح والهجاء ليست من الشعر في شيء! لا شكّ أن الشاعر يجب أن يقول رأيه مستندًا، ومتَّكِئًا على الصورة، والخيال، واللفظ المنتقى بعناية. لكنّ للشعر كما لبقية الفنون الأدبية الأخرى أغراضًا متنوعة، فلا يمكن أن نقارن “شاعرية” قصيدة مدح أو هجاء، بشاعرية قصيدة غزلية، ولنا من الشعر العربي شواهد كثيرة عن صور شعرية بليغة وجميلة في قصائد مدح كقول جرير: “وأندى العالمين بطون راح”، وقول المتنبي: “كأنك في جفن الردى وهو نائم”، وغيرها، وليس لنا هنا مجال للتوسع.

أما العامل الأساسي الذي لا يمكن إغفاله وذكره المستطلِع في سؤاله، فهو مفهوم “التجاوز”، فقول ما قيل لا جدوى منه لكن لا مانع في التكرار إذا جاء بمعنى متجاوز، أو بصيغة أخرى.

وهذا التجاوز ليس حديثًا، بل هو موجود في كلِّ عصرٍ منن العصور، ويحضرني في هذا المقام قول أبي نواس متهكما وساخرا من وقوف الشعراء على الأطلال، والذي كان شائعا في معظم قصائد الفترة السابقة لعصره، قائلًا: “قلْ لمَنْ يبكي على رسمٍ دَرَسْ * واقفًا.. ما ضرَّ لو كانَ جلَسْ”.

هذا التجاوز هو ما يجعل الشعر “سباق تتابع” يسلّم فيه الشاعر الأول زميله الثاني العصا حتى ينطلق ويتابع الركض إلى خط النهاية الذي لا سبيل إلى بلوغه عبر الأجيال المتعاقبة، ولا شكّ أن ميزة التجاوز هذه قد يكون محورها فكرة النص، أو الصور والخيال، أو اللفظ والسبك. لكنها من وجهة نظري لا علاقة لها بالوزن.

وهنا أنتهز الفرصة للتعبير عن رأيي الشخصي، فأنا كما يتهمني البعض “رجعيٌّ، متخلّف، مربوط إلى (عمود)” بسبب تفضيلي العمودي، والشعر الحرّ (المبني على التفعيلة)، ولا أعترف بقصيدة النثر. أنا ببساطة لا أفهم أبدا كيف يمكن أن يكتب الإنسان نثرًا ويسميه شعرًا. علمًا أن هذا “النثر” قد يكون في غاية الجمال والروعة لكنه ببساطة “لا يجعله شعرًا” لمجرد أنه جميل!

وأختم بعيدًا عن رأيي الشخصي الذي لا يلزم أحدًا غيري، ولا يهمّ أحدًا غير المشغولين عن كتاباتهم بآراء غيرهم، فأقول أنّ الجيّد أوّلا ما خلا من الخطأ، وهذا شرط أساسي لا مناص منه. بعد ذلك تأتي مجموعة من العوامل المتّفق عليها، والتي بالتأكيد أشبعها المستطلَعون غيري بالذكر والتفضيل إلا أنّي أرى أنّ هذه العوامل لا تخضع لمقادير معينة بل هي خلطة يستطيع “الشيف الشاعر”. المعذرة. أقصد “الشيف الشاطر” أن يخلطها بنسب تضمن عدم طغيان أحدها على الآخر ليحتفظ بنكهة متميزة قد نختلف في تقبّلها لكننا سنستمتع بها، ونستفيد من مكوّناتها ما دام ليس في عناصرها ما يفسد مذاقها، والفساد هنا فساد الخطأ والصحيح لا فساد الكره والتفضيل. و”بون أبيتي”.

****

الشاعر والاكاديمي واللغوي إبراهيم طلحة يرى أنه :

من سمات القصيدة الجيدة وخصائصها في اعتقادي أنها لا تعجب النقاد، وأنها لا هي سهلة ولا هي صعبة، وأنها غامضة على السطحيين ومباشرة في نظر الغامضين، وأن جمهورها يتنوع ما بين الأكاديميين والنخب والخاصة وبين الشعبويين والعمال والعامة، وأن رجال الدين التراثيين والمثقفين الحداثيين على حد سواء قد يصدرون فيها أحكامًا فقهية، وأنها قد تقبل أكثر من عنوان وتأويل لها.

ومن سماتها وخصائصها أيضًا أن يعاديها أدعياء النقد ويجاريها أدعياء الشعر

****

الشاعر قاهر القادري يرى انه

هل تساءلت يوماً لماذا تبقى بعض القصائد خالدة لسنوات، وعقود وقرون، بينما تختفي أخرى سريعًا؟

لطالما كان الشعر منبرًا، وجسرًا يعبر من خلاله الشاعر إلى قلوب وعقول الناس، ولكم قال الشعراء مالم يقوله الآخرون، فهو المرآة التي تعكس أحاسيسنا وتصور أحلامنا، وتجعل من الكلمات أجنحة تطير بنا إلى عوالم لم نكن نحلم بزيارتها.

وهناك سمات للقصيدة الجيدة التي تجعل قلب القارئ، يصرخ “الله ” لانفعاله الروحي، والذهول الجمالي، والهيبة الفنية اندهاشًا من قدرة الشاعر على التعبير والتأثير!

بداية من السمات الجمالية.

* الصور الشعرية: التي تخلق أمام القارئ أو المستمع مشهدًا جميلًا، دون الحاجة إلى آلات تصوير وإخراج وإضاءة وغيره من آلات…!

متجاوزًا لقوانين الطبيعة، راسمًا في الأذهان لوحة بديعة فانتازية، هكذا عاش القدماء بدون الهواتف الذكية وشاشات التلفزيون، يصورون الكلام ثلاثي الأبعاد (3D).

يقول يزيد بن معاوية:

“وَاسْتَرْجَعَتْ سَألَتْ عَنِّي فَقِيْلَ لَهَا

مَا فِيهِ مِنْ رَمَقٍ، دَقَّتْ يَدّاً بِيَدِ

وَأَمْطَرَتْ لُؤلُؤاً منْ نَرْجِسٍ وَسَقَتْ

وَرْداً وَعَضَّتْ عَلَى العُنَّابِ بِالبَرَدِ”

أي رجعت للطيف وسألته مرة أخرى عن معاوية وقال لها طيفها الذي يذهب لمعاوية مافيه من رمق، أي أنه على وشك الموت من العطش فدقت يدًا بيد، صفقت بيدها اليمنى على اليسرى بحسرة ..

فصور دموعها (لؤلؤا)، وعينيها(نرجس)، وخديها (وردا)، وشفتيها(عناب)، وأسنانها(برداً)اي ثلج.

ويقول الشاعر المصري أحمد بخيت في قصيدة (الليالي الأربع):

أريكتُنا التي سَكِرَتْ بضِحْكَتِنا معًا تبكي..

ولا تغفو معي إلاَّ إذا حدَّثتهُا عنكِ ..

فتحضُنُني لَعَلَّ عَلَى قميصي شَعرة مِنْكِ.

كلمات بسيطة، لكنها تحمل إحساسًا عميقًا، وتفاصيل دقيقة تجعل القارئ والمستمع يعيش اللحظة.

* الوزن والقافية:

الوزن: كنبض القلب، ينساب خفياً في العروق، فإذا أصغيتَ إليه أحسست بإيقاعٍ يوقظ فيك الإحساس، ويضبط حركات الكلمات كما يضبط الإيقاعُ خطوات الراقص. هو ميزانٌ خفيّ، كلما التزمه الشاعر، خرج بيته كالسطر المضيء في صفحة الليل.

أمّا القافية فهي الخاتمة الصوتية، الوقع الأخير الذي يرسخ في الذاكرة ويمنح البيت انسجامه. وحين يجتمع الوزن بالقافية، يكتمل البناء الشعري، فتولد موسيقاه المميزة التي تفرّق بين الشعر والنثر.

* الموسيقى الداخلية.

وهناك موسيقى داخلية تولد في النص عندما تكون مصحوبة بالتكرار والجناس والسجع والخ…، تجعل النص شاعريا، حتى لو كان نثرًا، موسيقى تنبع من جوف الكلمات، يتغنى به النص الشعري أو النثري،

كالروح في في النص ترقص بدون قيثارة، وتغني دون لحن.

في التكرار والطباق في قول عنترة:

لاتسقني ماء الحياة بذلةٍ

بل فاسقني بالعز كأس الحنظلِ

ماء الحياة بذلةٍ كجهنمِ

وجهنم بالعز أطيب منزلِ

التكرار مثل «لا تسقني» «بل فاسقني»

«جهنم» و ،«وجهنم» في جهنم الأولى يراه كعذاب، والكلمة الثانية جميل لأنها بطعم العز.

وأيضًا «ماء الحياة»

و الطباق

عند «الذلة» و«العز»

أما الجناس كقول الشاعر:

قف طالبًا فضل الإله وسائلا

واجعل فواضله إليه وسائلا.

، “سائلا” الأولى بمعنى طالبًا، و”سائلا” الثانية بمعنى الوسيلة أو الطريقة.

وأيضًا قول الشاعر:

عضَّنا الدهر بنابه

ليت ما حل بنا به.

، “بنابه” الأولى ضمير متصل يعود على الدهر، و”به” الثانية بمعنى “فيها” أي في المصيبة.

السمات الفكرية

* “العمق” أن لا تقرأ النص قراءة سطحية _ كقارئ من البلدان النامية “العالم الثالث” يقرأُ صحيفة عن أخبار الموضة_ بل أن تغوص في النص، وتأول الشعر حسب شعورك كقارئ، أن تقول الشاعر هكذا كان قصده، ويقول قارئ آخر لا بل هكذا…

* «الابتكار»، أن يأتي الشاعر بشيء جديد بصور جديدة بشعر وعنوان آخر، أن يبتعد الشاعر عن التقليد الأعمى، هو ما يجعل القصيدة خالدة!

* «الترابط والانسياب»

أن ينسج الشاعر قصيدته بلون واحد، فتعدد الألوان يمزق ثوب القصيدة، ويربك القارئ، لا يدري ما الذي يريد الشاعر قوله، بل يجب أن تكون القصيدة كالنهر الجاري في وريد القارئ أو المستمع، تسقيه بالجمال والحكمة.

عليه أن يرابط بين البيت والبيت بحيث لا يستطيع أن يتجاوز بيتًا واحدا، وإذا تجاوزه يجد نفسه ضالا ضائعا.

ولك في هذه الأبيات لـ(يزيد بن معاوية) التي تسبق البيتين الأولين في «الصور الشعرية»،

مثال في الترابط والأنسياب:-

“قد خَلْفَتْنِي طريحاً وهي قَائِلَة

تأملُوا كَيفَ فعل الطبي بالأسدِ

قَالَتْ لِطَيْفِ خَيَالٍ زَارَنِي وَمَضَى

بِاللهِ صِفْهُ وَلاَ تَنْقُصْ وَلاَ تَزِدِ

فَقَالَ أَبْصَرْتُهُ لَوْ مَاتَ مِنْ ظَمَأ

وَقُلْتِ قِفْ عَنْ وُرُودِ المَاءِ لَمْ يَرِدِ

قالت: صدقت الوفى في الحب شيمته

يا برد ذاك الذي قالت على كبدي

وَاسْتَرْجَعَتْ سَألَتْ عَنِّي ……”

لن تستطيع حذف بيتا واحدًا، وجرب ذلك!

* عدم الحشو

وهو تقليل الكلمات لنقل كلام أكبر معنى.

يقول الشاعر إبراهيم الباشا:

(سيلُ الأسامي)

دنا إلى مقدسٍ في الروح، حين دنا

يؤبجد المشتهى يستأنف الشجنا

منذ «أهبطا»…،

سلمَ الأسما وفي يده اليمنى اقتباسٌ

وفي اليسرى انطفاءُ سنا

* البلاغة

اختيار كلمات وأساليب جميلة تدعم المعنى وتقويه.

* إضافة الحكم، وصياغة الأمثال.

أن يخلق الشاعر في قصيدته الحكمة، والنصيحة، ليظهر نفسه بروح فيلسوف!

ولك في كثير من البيوت المشهورة كحكم للكثير من الشعراء القدماء، التي ما زالت إلى الآن نتغنى بها في القرن الحادي والعشرين.

يقول المتنبي:

“إِذا غامرتَ في شرَفٍ مرومٍ ·

فلا تقنع بِما دونَ النجومِ ·

فَطعمُ الموتِ في أَمرٍ صَغيرٍ ·

كَطَعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمِ.”

وأيضًا

“أَعزُ مكَانٍ في الدُّنى سَرْج سَابِحٍ

وَخيْر جليسٍ في الزَّمانِ كِتابُ”

****

الشاعرة والدكتورة ابتسام المتوكل ترى ما يلي :

القصيدة الجيدة هي التي تقولك أنت بوصفها بعضا من حنين قديم يهز ذاتك ويشكل ملامحها ومع ذلك تدهشك وتفاجؤك كأنما هي إجابة مفاجئة لأسئلة لم تتمكن روحك من صياغتها ولم تتوقع هطولها .

القصيدة الجيدة إذن هي أنت وهي نقيضك هي انتظاراتك المخفية وهي انكشافاتك الحاضرة هي الكلام الذي تظن نفسك نفسها قادرة على قوله دون تعب وهي الصمت الذي لا تتوقعين أن بوسعه أن يتحول إلى كلام مهما بالغت في التعب.

القصيدة الجيدة هي التي تخون توقعاتك الروتينية وتفي لاندهاشك المباغت. هي حياة لا تذبل ونبت يصر على النماء مخاتلا الموت وهي موت الرتابة وفناء التلقين هي قيامة الخيال وانبعاث التصوير وتفلت اللغة من قيودها ووشايتها ببعض من أسرارها وكنوزها الدفينة تلك التي تنتظر شاعرتها لتوقظ كل ذلك الجمال والعمق ببساطة لا يتقنها سوى الشاعرات والشعراء.

***