صحيفة الثوري- الجمهورية نت:
ياسين الحاج صالح
- تعريف: تتواتر الشكوى بالعربية وبغيرها، وفي الأوساط اليسارية بخاصة، من أزمة في الخيال السياسي، أي في الصور والتصورات والرموز والأفكار السياسية التي تُلهم الناس في نشاطهم العام، وتُسهم في تقريب شركاء المخيلة من بعض، وقد تقوم عليها أحزاب ومنظمات، أو تدفع إلى ظهور حركات اجتماعية، أو حتى قيام ثورات. ويُقدَّر أن هناك أزمة في الفعل السياسي تعود جزئياً على الأقل إلى الفقر في الصور والرموز والتصورات المحركة، المحفزة إلى الفعل والتنظيم. وبينما لا يكفُ الناس في مجالنا عن الكلام في السياسة، بل وبناء الأحزاب، إلا أن الأخيرة لا تكاد تصنع فرقاً، ويتواتر أن تموت بينما لا تزال تحبو، بما يُشير إلى قوة جذب ضعيفة، لا تشد أعضاءها إلى بعضهم ونحو مستقبل متخيل مشترك. أما الكلام السياسي فيشيع أن يعوض عن فقر الخيال بالميل إلى الشجار.
- عنصر مكمل: هناك بُعد آخر للخيال السياسي يندر أن يجري الكلام عليه رغم أنه يساعد في تفسير الأزمة. يتصل الأمر بالصدمات والمخاوف و«المثل الدنيا» المختبرة كمكوّن مكافئ لخيالنا السياسي. التجارب المُحبِطة والفاشلة، الخيبات الكبيرة من المنظمات والأحزاب، الشعور بالخذلان أو حتى بالاستغلال في منظمات متبلدة… هذا الجانب السلبي من الخيال السياسي يشل الناس عن الفعل السياسي والتعاون مع الغير، ويدفعهم إلى الانكفاء والقدرية. الخيال السياسي مساحة تقابل وتفاعل أعظم المآثر وأقوى المخاوف، الانتصارات العظيمة والكوارث المأساوية، البطولات والتفاهات، ما يُثير الحماسة وما يُوقع في الاكتئاب. وهو في أزمة اليوم في كل مكان بفعل ما يبدو من أرجحية صور الصدمات والمخاوف والفشل على صور النهوض والشجاعة، بأثر هزيمة القوى والسياسات الاشتراكية في العقدين الأخيرين من القرن الماضي.
- مُحصلة: يتكون الخيال السياسي بعامة من سوابق التاريخ المفصلية مثلما يوصلها لنا التراث (المشاع الفكري والرمزي العالمي)، ومن عمليات تكييفها مع الزمن الراهن في وجهة تغييرية أو في وجهة محافظة. هناك بالفعل أزمة في الفعل التغييري في كل مكان من العالم على صلة بأزمة الخيال، أو عقم المخيلة السياسية، بأثر مُحصلة تقارب الصفر، أو حتى تتدنى عنه، للمآثر والرضّات «الترومات».
- خيال سياسي إسلامي: في المجال العربي هناك حضور كبير للخيال السياسي الإسلامي، يُركز على النبي والدعوة والوحي الرباني، على الصحابة والقادة والأبطال والشهداء، على المعارك والفتوح والسيطرة. النبي هو الشخصية المركزية في الخيال السياسي الإسلامي؛ يتطلع كثيرون إلى أن يفعلوا فعله، فيكون ما حولهم من مجتمع وحكم وثقافة جاهلية يحاربونها وينتصرون عليها. هنا في واقع الأمر خيال مفتقر إلى الخيال بشدة، تمخض غالباً عن هزيمة أصحابه وكثير من المعاناة لهم ولغيرهم. كان الفارابي قد فسر النبوة بكمال القوة الخيالية عند النبي، هذا بينما يُظهِر إسلاميو زمننا نقصاً شديداً في القوة الخيالية نابعاً من تكوينهم كمتبعين.
- وقومي عربي: النصر مركزي عند الإسلاميين والقوميين معاً، لكن الإمبراطورية هي مرجع الخيال عند القوميين، وهي برهان إلهية الدعوة وكفالة نصرها عند الإسلاميين الذين كانوا يعرضون منزعاً عالمياً أو كونياً أكثر من القوميين. ربما يتشكل من تقاطع الدعوة التوحيدية إلى الناس جميعاً ومن سعة وتنوع المجال الإمبراطوري الإسلامي في عزه. وفي زمن التبعية وفقد الثقة بالنفس في القرنين الأخيرين، انقلبت العالمية الإسلامية على نفسها، فتحولت إلى عدمية وإرادة تدمير العالم.
- المثل الأدنى: يختلف القوميون والإسلاميون بخصوص المثل الأعلى لكنهم متقاربون فيما يخص هذا المثل الأدنى الذي يُراد تجنبه: الخوف من الذل، من الهزيمة وضآلة الشأن، من الخروج من التاريخ أو من الانقراض. الإسلاميون غاضبون محترفون، فيما القوميون واليساريون مكتئبون. ويستحق الاكتئاب العربي الذي خصص له الأكاديمي التونسي نوري غانا كتاباً مهماً بالإنكليزية Melancholic Acts اهتماماً متكرراً من زاوية مفهوم الخيال السياسي. كان كلام فالتر بنيامين المبكر على «الاكتئاب اليساري» قد ألهم غير قليل من الكتابات بين اليساريين الغربيين، وإن كان لا يبدو أنها أسهمت في الخروج منه.
- 1000 عام من الغياب: غاب العرب بما هم كذلك عن الحرب والسياسة، وعن الحضارة، وبالتالي عن التاريخ لنحو ألف عام، وحين أخذوا بالعودة كانوا إما تحت سيطرة قوى استعمارية أو على هوامش إمبراطوريات فاتحة جديدة لديها رسالة هي الأخرى، لكنها ليست دينية: رسالة الحضارة. بلا قوة ولا حضارة، كان هذا الشرط العربي تحققاً للمثل الأدنى، تخيل الكارثة ومبعث القلق الوجودي.
- التحرر الوطني: جرت مواجهة الاستعمار بمقاومات متنوعة بعضها عنيف جداً وباهظ الكلفة مثل الثورة الجزائرية. هنا مرجع جديد لخيال سياسي إيجابي، ليس إسلامياً ولا مستمداً من الإسلام، وإن يكن أغلب المقاومين مؤمنين. حدث الاستقلال الوطني لم يكن درامياً في الغالب مثلما كان في الجزائر، وهو لذلك أضعف تغذية للخيال السياسي. التجربة الناصرية ربما تكون الأغنى على هذا الصعيد عربياً. كان العمل الفدائي ملهماً لنحو عقد بين الستينيات والسبعينيات، لكن تورط منظمة التحرير في الحرب اللبنانية ثم الهزيمة أمام إسرائيل حدّ من الأثر الملهم للعمل الفدائي الذي ظل محدوداً حتى في سنوات صعوده. وما يجمع بين هذه التجارب أنها وطنية أو «قومية» تشكل مرجعاً جديداً غير إسلامي، وإن استحضرت واستلهمت تاريخ الإسلام. وما أخذ ينفّر من هذا المرجع الرضّة التي وقعت عام 1967، وهي تروما كبيرة جداً تصرف الناس عن التجارب التي تسببت لهم بجراح نفسية غائرة.
- الربيع العربي: هناك مرجع ثالث أحدث للخيال السياسي هو «الربيع العربي»: ثورات اجتماعية سياسية موجّهة ضد نظم الحكم، تمخضت عن إسقاط أو سقوط عدد من الزعماء المزمنين. من الصور الملهمة في الربيع العربي التجمعات الكبيرة في ميادين عامة ونموذج ميدان التحرير في القاهرة، والعدد الكبير من الشهداء والأبطال. لكن الربيع العربي بدوره جمع بين ما يُلهم ويوحد وبين ما ينفّر ويفرّق. إلهام الانتصار على النظام انتهى خلال أشهر. والمثل الأدنى هو الأقوى حضوراً اليوم، أعني الخشية من الأسوأ.
- خيال سياسي يساري: العرب جزء من العالم، وكانت تجارب عالمية مصدر إلهام وتغذية خيال كثيرين منا، منها بصورة خاصة الشيوعية في القرن العشرين. الثورة الروسية هي الحدث المرجعي، وعدٌ بالعدالة والأخوة ومنهج مجرب للتقدم. تشكل الخيال السياسي اليساري عبر الثورات، من الثورة الفرنسية إلى كومونة باريس ثم الثورة الروسية وانتفاضات 1968. بلغ الخيال السياسي الشيوعي من القوة حد أن تشكلت أحزاب شيوعية في معظم البلدان العربية. لكن انهيار الاتحاد السوفييتي وكوارث الحكم التروما نفرت الكثيرين ولم يتعافَ منها الخيال السياسي اليساري إلى اليوم.
- نظرة عامة: هذه ملامح تخطيطية خشنة لخيالنا السياسي المعاصر. الإسلامي منها قديم ويفشل الاستناد إليه في إلهام العدالة والحريات والحقوق في مجتمعاتنا. وغير الإسلامي، الاستقلال ثم الربيع العربي، طاقته الخيالية ليست كبيرة جداً. والمرجع الشيوعي تداعى عالمياً، واليساريون السوريون والعرب شركاء في كآبة جامعة. حالة من فقد النزوع أو حس الاتجاه على مستوى الفعل الجمعي.
- الخيال والشجاعة: ما يجمع بين هذه المراجع للخيال السياسي هو البداية الكبيرة والدراما الملهبة للحماسة والخيال والقيمة الرفيعة أو المثل الأعلى والشجاعة. كلها أحداث شجاعة حتى ليمكن القول إن الشجاعة هي فضيلة الخيال السياسي الأولى. ما يمكن بناؤه على هذه المراجع هو أن يتشكل خيال سياسي جديد من أفعال الاعتراض على الواقع ونفي ما هو قائم وتحديه. بالاعتراض على ما هو قائم نوسع نطاق الممكنات على حساب الممتنعات إلى أن نصل إلى عتبة تُشكل خيالاً سياسيّاً جديداً، متحرراً. وإلى جانب أفعال الاعتراض والنفي قد نفعل خيراً بأن ندخل في النقاش العالمي حول الأزمة ونتعلم من غيرنا ونقول أشياء تفيد غيرنا. الأزمة عالمية ونحن من العالم والحلول ينبغي أن تكون مشتركة.
- خيال سياسي ليبرالي: قد يبدو أن هذه المناقشة أغفلت الخيال السياسي الليبرالي. هناك اليوم تنويعة منه متمركزة حول مبدأ حقوق الإنسان وخطابات المظلومية. من شروط إمكان هذا الخيال العولمة الليبرالية وظهور الأممية الحقوقية الدولية. لكنه يتصور الإنقاذ قادماً من قوة خارجية، وينطوي بالتالي على التخلي عن الفاعلية والإمساك بالمصير.
- البدء بالأزمة: الإقرار بأننا في أزمة والعمل على تجاوزها يبقى المسلك الأنسب في واقع اليوم. نحو 40 عاماً انقضت على الموجة اليمينية الليبرالية أعقبت نحو 70 عاماً من زمن ثوري عالمي متنقل. وهذا وقت أفعال الاعتراض وكسر الهيمنة ثم التعلّم من غيرنا والمشاركة مع غيرنا في صنع مستقبل مختلف.