“صحيفة الثوري” – كتابات:
د. محمد فاضل الفقيه
تزخر سجلات النضال الوطني والقومي بأسماء خطت بأحرف من نور تاريخ الشعوب وكرامة الأوطان. ومن بين تلك الأسماء التي يصدح بها التاريخ اليمني، يبرز اسم الرفيق القائد / عبد الواحد المرادي، عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني ليس مجرد شخصية قيادية فحسب، بل رمزًا حيًا لفلسفة الانتماء العميقة، ومجسدًا لأطروحة التقدمية في أبهى صورها. لقد كان المرادي، بفكره الثاقب ومواقفه الصلبة ونبله الإنساني، أكثر من قائد سياسي؛ كان بوصلة تشير إلى العدالة، وصوتًا يصدح بالحق، وروحًا لا تعرف المهادنة في سبيل المبادئ.
إن الحديث عن المرادي هو حديث عن رحلة كفاح متعددة الأبعاد. ففي صميم الحركة الوطنية اليمنية، كان ضلعًا لا ينكسر، ومبادرًا لا يعرف التردد. تشهد له دهاليز النضال السري والعلني على حد سواء، تلك الأيام التي كان فيها الوطن غنيمة للاستعمار والتبعية. هنا، في قلب المعمعة، تشكلت رؤيته الثورية، وتعمقت قناعته بأن التحرر ليس مجرد شعار، بل مشروع حياة، يتطلب تضحيات لا تحصى وصبرًا لا ينفد.
ولم يكن نضال المرادي حبيس الحدود الجغرافية لليمن. بل امتد ليشمل البعد القومي، مؤمنًا بوحدة المصير العربي وضرورة التكاتف لمواجهة التحديات المشتركة. لقد كان يرى في القضية الفلسطينية، على سبيل المثال، قضية العرب الأولى، وفي تحرير الأمة من قيود التخلف والاستبداد مشروعًا حضاريًا لا يقبل التأجيل. هذه الرؤية المتكاملة، التي تربط الخاص بالعام، تؤكد على عقليته الاستراتيجية وقدرته على استشراف المستقبل برؤية ثاقبة.
أما على الصعيد العالمي، فقد كان المرادي صوتًا يمنيًا وعربيًا حاملًا لواء المظلومين والضعفاء، مدافعًا عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، ورافضًا لأي شكل من أشكال الهيمنة أو الاستغلال. لم يكن يعترف بالحدود في سعيه نحو عالم أكثر عدلًا وإنسانية، فكانت قضيته هي قضية كل إنسان يناضل من أجل الحرية والكرامة.
البناء المؤسسي: رائد في تأسيس الحزب الاشتراكي
لم يكن الرفيق عبد الواحد المرادي مجرد مناضل ميداني أو مفكر سياسي، بل كان أحد العقول المؤسسة والركائز الأساسية التي قام عليها الحزب الاشتراكي اليمني. في حقبة كانت فيها الحاجة ماسة إلى تنظيم سياسي طليعي يجمع شتات القوى التقدمية ويوجهها نحو هدف التحرر والبناء، برز دور المرادي كشخصية محورية في صياغة الرؤى وتوحيد الصفوف. لقد أسهم بفكره وعزيمته في وضع اللبنات الأولى لهذا الحزب، الذي بات فيما بعد أحد أبرز القوى السياسية في اليمن.
لقد تكفل بحسب إفادة رفاقه بمهام لا تحصى في مسيرة تأسيس الحزب وتطوره. من وضع الأطر الفكرية والسياسية، إلى بناء الهياكل التنظيمية، مرورًا بالعمل الدؤوب على استقطاب الكوادر وتأهيلها. كان وجوده ضروريًا في كل مرحلة، سواء في اجتماعات التأسيس السرية، أو في مراحل البناء العلني، أو في فترات الصراع والتحديات التي واجهت الحزب. كان قائدًا لا يتردد في تحمل المسؤوليات الكبرى، ولا يتوانى عن الانغماس في أدق التفاصيل لضمان نجاح المساعي المشتركة.
أثبت المرادي قدرة فائقة على الاضطلاع بهذه المهام الجسام ببراعة واقتدار. لم يكن الأمر مقتصرًا على الجانب النظري، بل امتد إلى العمل التطبيقي الشاق الذي يتطلب حنكة سياسية، وقدرة تنظيمية عالية، وشجاعة نادرة في مواجهة العقبات. كان ورفاقه من يضعون الخطط، ويشرفون على تنفيذها، ويحلون المشاكل التي تعترض طريق الحزب، جاعلًا من نفسه مثالًا يحتذى به في الالتزام والتفاني. دوره كمؤسس وقائد لم يكن مجرد لقب، بل كان ممارسة يومية لدور يتجاوز الأفراد، ليصب في مصلحة بناء صرح وطني راسخ.
فلسفة الشجاعة والمواجهة: قلب النضال
ما يميز شخصية المرادي، ويمنحها بعدها الفلسفي العميق، هو ثبات مواقفه وشجاعته الفذة في المواجهة. لم يكن رفيقًا يغير جلده بتغير الفصول، أو ينحني للعواصف مهما اشتدت. في زمن تلوثت فيه الكثير من المبادئ السياسية بفعل مصالح ضيقة أو مكاسب آنية، ظل المرادي شامخًا، متمسكًا بقناعاته التي آمن بها، حتى لو كلفه ذلك الكثير. هذا الثبات ليس مجرد عناد أو جمود، بل هو تعبير عن إيمان راسخ بفلسفة التغيير الجذري، وبأن الطريق إلى مستقبل أفضل يمر عبر التزام لا يتزعزع بالقيم والمبادئ العليا.
لقد تجلت شجاعة المرادي في قدرته على مواجهة الظلم والطغيان بلا تردد، سواء كان ذلك داخل الحزب، أو في مواجهة الأنظمة المستبدة، أو حتى في المحافل الدولية حيث كان يصدح بالحق غير هياب. لم تكن الشجاعة لديه مجرد غياب للخوف، بل هي إصرار على الفعل رغم وجوده، وهي اختيار واعٍ للمواجهة عندما تتطلب المبادئ ذلك. هذه المواجهة لم تكن طيشًا أو اندفاعًا، بل كانت نتاج رؤية سياسية عميقة، وفهم دقيق لموازين القوى، وشعور راسخ بالمسؤولية التاريخية تجاه شعبه وأمته. لقد كان يدرك أن التغيير لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تجرأ أصحاب الحق على رفع أصواتهم والوقوف في وجه الباطل، مهما كانت التحديات.
هذه القناعة هي ما جعلته شخصية تقدمية بامتياز. التقدمية في قاموس المرادي لم تكن مجرد شعارات رنانة، بل هي منهج حياة، وفلسفة سياسية تقوم على تحليل الواقع بموضوعية، واستشراف المستقبل برؤية ثاقبة، والعمل الدؤوب من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والتحرر الإنساني. لقد كان يؤمن بأن التغيير الحقيقي لا يأتي إلا من خلال وعي جماهيري، وتنظيم دقيق، ونضال مستمر لا يعرف الكلل.
النبل الإنساني: رفيقًا قبل أن يكون قائدًا
ولكن، بعيدًا عن صخب السياسة وعمق الفلسفة، يبرز جانب آخر في شخصية عبد الواحد المرادي، يضفي عليه هالة من التقدير والاحترام: نبله الإنساني واهتمامه العميق برفاقه. لم يكن قائدًا منعزلًا في برجه العاجي، بل كان وما زال رفيقًا يشارك رفاقه همومهم وأفراحهم، يشد على أيديهم في المحن، ويقف إلى جوارهم في الشدائد. هذه الصفة، التي قد تبدو بسيطة، هي جوهر القيادة الحقيقية، لأنها تؤسس لروابط أعمق من مجرد العلاقات التنظيمية؛ إنها تبني جسورًا من الثقة والمحبة، تدفع بالجميع نحو تحقيق الأهداف المشتركة بروح من التضامن والإخاء.
ففي ساحة النضال، حيث تتآكل النفوس وتختبر العزائم، كان المرادي مصدر إلهام ودعم. يروي رفاق دربه كيف كان يولي أدق التفاصيل اهتمامًا، وكيف كان يسعى جاهدًا للتخفيف عنهم، وكيف كان حاضرًا لتقديم العون والمشورة. هذا النبل الإنساني لم يكن مجرد خصلة شخصية، بل كان جزءًا لا يتجزأ من فلسفته التقدمية، التي ترى في الإنسان محور الكون وهدف النضال الأسمى.
في الختام، يظل الرفيق القائد عبد الواحد المرادي قامة وطنية وقومية وعالمية، تتجلى في سيرته فلسفة النضال المستمر، وثبات الموقف، وشجاعة المواجهة، والدور المحوري في تأسيس الحزب الاشتراكي، وعمق الانتماء الإنساني. إن الكتابة عن المناضل المرادي ليست مجرد استدعاء لماضٍ تليد، بل هي دعوة دائمة لاستلهام العبر، وتأكيد على أن المبادئ العظيمة لا تموت، وأن الأرواح النبيلة تظل منارات تضيء دروب الأجيال القادمة نحو مستقبل أكثر عدلًا وإنسانية..