“صحيفة الثوري” – كتابات:
مصطفى علوش
“رفيق وما عندي رفيق ورح يبقى اسمي رفيق
عم فتّش عواحد غيرك، عم فتّش عواحد متلك
يمشي ومنكفّي الطريق”.
لم أتمالك نفسي عن الإحساس بالغُصص ولا حتّى حبست دمعة عندما “تلفن عيّاش” ليذيع الخبر، فتذكّرت رثاء أحمد فؤاد نجم لزعيم فيتنام “هو شي منه” قائلاً:
“يا دي العجب يارجب يامرتّب الحكايات
اسمع وشوف واندهش واكتبها في الكتبات
عسى الكلام ينقرى لو قلبوا الصفحات
خلّي الشعوب والدول تتعلّم البطولات
ولمّا ذاع الخبر واتأكّد الخبر
قال هوشي منه مات الحاكم اللي زهد في الملك واللذّات
والزاهد اللي حكم ضدّ الهوى واللذّات مات المسيح النبي
ويهوذا بالألوفات مات الصديق الوفيّ للخضرة والغابات
مات بس فات للأمل فوق الطريق علامات لو سار عليها العمل
طول الطريق بثبات تهدي الطريق سكّته وتقرّب المسافات”.
نبض حيّ وصوت صارخ
خفتت أنوار المسرح، وصمتت آلات العزف التي طالما رقصت على أنامله. فقد ودّعنا زياد الرحباني، الذي لم يكن مؤلّفاً أو ملحّناً أو ممثّلاً وحسب، بل كان نبضاً حيّاً من نبض الناس، وصوتاً صارخاً يصدح بالحقيقة في وجه الظلم والتزييف.
كان زياد، يا رفاق، “بالجرم المشهود” كلّما انتفضت الكلمات على لسانه أو انطلقت النغمات من تحت أصابعه. امتلك رؤية فريدة استطاع بها أن يكشف زيف الواقع بمرارة كوميديّة لاذعة، فجعلنا نضحك على أوجاعنا. ونرى أنفسنا في مرآة أعماله التي لم تكن تجمّل قبح ما آلت إليه أحوالنا. كان مسرحه “فيلم أميركي طويل” عرض مشاهد من حياتنا بكلّ ما فيها من تناقضات وشخصيّات لا تُنسى.
من منّا لم يتردّد على مسامعه صدى “يا شبعان يا بيّاع الخسّ”؟ هذه الجملة البسيطة التي اختصرت الكثير من واقعنا المرير، وصارت أيقونة لكلّ من يرى في عمله البسيط مصدر رزق شريف في زمنٍ عزّ فيه الشرف. كان زياد يرى تفاصيل الحياة الصغيرة ويجعل منها لوحات فنّية عظيمة، يمزج فيها الفكاهة بالمرارة، والنقد الساخر بالحقيقة العارية.
لقد علّمنا زياد أنّ “كلّ ما منعرفوا كذب، كذب، كذب”، وأنّ الحقيقة غالباً ما تكون مؤلمة لكن لا بدّ من مواجهتها.
لم يخشَ يوماً أن يكسر المحرّمات، وأن يطرح الأسئلة الصعبة، وأن يعرّي الواقع من دون رتوش. كان فنّاناً أصيلاً لم يساوم على مبادئه، ولم يخشَ “الوقوف في وجه الريح” حتّى لو كان وحيداً.
فتح باب الخيال
لم يكرّر زياد نفسه، فقد كان فريداً في كلّ عمل قام به، ولم يستحِ من عرض موسيقى غيره بتصرّف منه، لكن من دون إخفاء أصحاب الفضل الأوّل، حتّى وإن كان “استرق واستحقّ”. كان ذلك إلى أن قرّر أنّه “شي فاشل”، فيئس من رفع الصوت و”فتح باب خياله” وغاب عن السمع.
غاب لأنّه رفض تكرار نفسه وهو الذي انتقد أغنية “يا دارة دوري فينا، وضلّي دوري فينا”، ورفض ترداد العتابا إلّا على طريقته فقال “التقيت ببنت بفترة ما جويا وكنت بحقّها نضيف وكانت مجوية”.
أذكره بكلّ حب وحسرة على الرغم من أنّه لم يوفّرني في أحد الأيّام من انتقاده وسخريّته يوم كان مأخوذاً بسحر “الممانعة”، فمثل زياد لا يمكن تذكاره بما هو عابر وشخصيّ، بل بما تركه من عطر وفكر ونغم.
خفتت أنوار المسرح، وصمتت آلات العزف التي طالما رقصت على أنامله. فقد ودّعنا زياد الرحباني
صوت كلّ النّاس
هو صوت كلّ الناس عندما قال “أنا مش كافر، بس الجوع كافر والذلّ كافر”، و”شو عدا ما بدا ما بتفرق مع حدا صرنا بدنا نبيع ذهب الخواتم تندفع بالمطاعم فاتورة الغدا”، أو “يا زمان الطائفية كل واحد فاتح بوتيك والله الأوضة بألف ليرة بشارع صبرا وبالكسليك”. ثمّ “شوفوا التاجر يا جماعة بكل ميلة عندو شريك، تعلّم منه العلمانية”، أو ذاك الصدى المرعب في أغنية “شي عجيب” وكأنّني أعبر خطّ المتحف عند وقف إطلاق نار غدّار “يمكن راح ينقطع المتحف علميلين… قصص سالك عاخطّين… وراح ينقطع النفس الباقي بها اليومين… بكره منتنفس بعدين…”. وفي سخطه على الزعيم الوطني “ملّي كل شي في حيطان… شهدا وعالم كيف ما كان… شهدا قدما وشهدا جداد… في شي كبار وفي شي ولاد”.
رحل زياد بهدوء كما قال نجم في غيفارا: “آخر خبر في الراديوهات، وفي الكنايس والجوامع وفي الحواري وفي الشوارع والقهاوي وعالبارات، لا طنطنة ولا شنشنة ولا إعلامات واستعلامات”. مات بعدما يئس من الحلم، والموت قد يكون المنقذ من موت الحلم، فلا معنى لحياة ليس فيها حلم.
إرث خالد فوق الشبهات
وداعاً أيّها الفنّان الكبير، يا من رسمت البسمة على شفاهنا وأيقظت فينا الوعي. سيبقى إرثك خالداً، وستظلّ أعمالك تتردّد في ذاكرة الأجيال، تذكّرنا بأنّ الفنّ أعظم منحة لصاحبها وأجمل هديّة لنا، نحن عامّة الناس من غير المبدعين، وأنّ الكلمة الصادقة لا تموت. إنّ رحيلك خسارة كبيرة، لكنّ عزاءنا أنّك تركت لنا كنزاً فنّياً سيظلّ “فوق كلّ الشبهات” في قيمته وأثره.
وداعاً يا زياد الرحباني، ستبقى حاضراً في قلوبنا وعقولنا، وسيظلّ صوتك يتردّد “بالعالي” كلّما احتجنا إلى جرعة من الوعي والضحك الصادق. سننتظرك “عموقف دارينا” حيث الناس “لا عرفنا أساميهن ولا عرفوا أسامينا” لأنّه “هالسيّارة مش عم تمشي، بدنا حدا يدفشها دفشه، بيحكوا عن ورشة تصليح، وما عرفنا وينيه الورشة… بيجي مختار وبيروح مختار والسيارة مش عم تمشي”.
**
نقلا عن منصة: أساس ميديا
لمتابعة الكاتب على X:
@allouchmustafa1