“صحيفة الثوري” – كتابات:
القاضي محمد الهتار*
تُشكّل العدالة الانتقالية مدخلًا أساسيًا لمعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة، وتحقيق العدالة وإنصاف الضحايا في سياق ما بعد النزاعات، ولا يمكن إنفاذ هذا المسار بفعالية دون وجود قضاء مؤهل، قادر على التعامل مع تعقيدات الجرائم والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي.
ولا تقتصر العدالة الانتقالية على مساءلة المسؤولين عن الانتهاكات، بل تمثّل نهجًا شاملًا لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع على أسس من الحقيقة وإنصاف الضحايا وضمان عدم تكرار الانتهاكات في المستقبل.
وفي ظل استمرار النزاع وتفاقم الانقسامات في اليمن، تواجه السلطة القضائية تحديات كبيرة، تستوجب تطوير قدرات القضاة بما يضمن محاكمات عادلة وصون حقوق الضحايا ودعم مسار المصالحة الوطنية، إذ يشكل امتلاكهم للكفاءات النظرية والعملية شرطًا أساسيًا لنجاح مسارات العدالة الانتقالية.
سنتناول في هذا المقال سُبل دعم قدرات قضاة اليمن من خلال تحليل واقع التأهيل القضائي، واستعراض محاوره الأساسية، واقتراح استراتيجيات فعّالة تُمكّنهم من الاضطلاع بدور فاعل في مسار العدالة الانتقالية الوطني.
أولًا: واقع التأهيل القضائي في اليمن
يُعدُّ المعهد العالي للقضاء في عدن المؤسسة المعنية بإعداد القضاة ورفد السلطة القضائية بالكوادر المؤهلة، وقد اضطلع بدور محوري في بناء قدرات السلطة القضائية، غير أن هذا الدور الحيوي بات مثقلًا اليوم بجملة من التحديات البنيوية والمعرفية التي تعيق قدرته على الاستجابة لمتطلبات المرحلة الانتقالية، ومن أبرزها:
1. تعاني كليات الحقوق من غياب التأهيل التخصصي وقصور في المناهج، إذ تفتقر إلى مقررات في العدالة الانتقالية ومناهج متينة في حقوق الإنسان، ما يكرّس فجوة معرفية تؤثر سلبًا على قدرة القضاة في تطبيق المعايير الدولية.
2. محدودية الكوادر الأكاديمية والمهنية المؤهلة في مجالات العدالة الانتقالية، مما يضعف جودة التأهيل المتكامل بين الجانب النظري والتطبيقي، وينعكس سلبًا على قدرة القضاة في التعامل مع القضايا المعقدة مثل جرائم الحرب والاختفاء القسري والتعذيب وغيرها.
3. غياب رؤية استراتيجية متكاملة لدى المعهد العالي للقضاء فيما يخص إدماج مفاهيم العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان ضمن برامجه، بما في ذلك نقص البرامج التدريبية المتخصصة، وضعف التركيز على مهارات التعامل مع شهادات الضحايا، وإدارة الأدلة، والتعاطي مع القضايا التي تتطلب معايير قانونية دقيقة.
4. تعطّل برامج التدريب المستمر للقضاة، مما تسبب في تراجع كفاءتهم وصعوبة مواكبة التطورات الحديثة، فضلًا عن غياب التنسيق الفعال بين الجهات القضائية المعنية في هذا الجانب الحيوي.
5. تدهور البنية التحتية للمعهد العالي للقضاء، خصوصًا بعد انتقاله من صنعاء إلى عدن إثر سيطرة الحوثيين على مؤسسات الدولة، مما أثر على استمرارية التعليم وتسبب في تحديات لوجستية تعيق تحديث المناهج وتوفير بيئة تعليمية مناسبة.
6. محدودية التمويل والتجهيزات التقنية، التي تحد من قدرة المعهد على تحديث المناهج، وتوفير التدريب العملي، وإبرام شراكات مع المؤسسات الدولية، مما يؤثر سلبًا على جودة التعليم وقدرة القضاء على التعامل مع قضايا العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان.
ثانيًا: محاور التأهيل القضائي في سياق العدالة الانتقالية
إن إعداد القضاة للاضطلاع بدور فاعل في مسار العدالة الانتقالية يتطلب برنامجًا تأهيليًا شاملًا يجمع بين المعرفة القانونية والمهارات الإجرائية والرؤية الحقوقية المتقدمة، بما يمكّنهم من التعامل مع القضايا ذات الطابع الاستثنائي، ويمكن تحديد أبرز المحاور كما يلي:
1. الإطار القانوني والمفاهيمي للعدالة الانتقالية
تزويد القضاة بفهم شامل لفلسفة العدالة الانتقالية وأهدافها ومبادئها الأساسية، بما في ذلك التعرف على أبرز التجارب الدولية المقارنة، ودراسة الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، كما يشمل تحليل القوانين الوطنية والمؤسسات القائمة ذات الصلة بإنصاف الضحايا، وجبر الضرر، وتحقيق المصالحة.
2. التحقيق والمحاكمة في قضايا الانتهاكات الجسيمة
تطوير مهارات القضاة في إدارة قضايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، من خلال التدريب على أساليب التحقيق وتحليل الأدلة والتعامل مع الجرائم المعقدة كالتعذيب والاختفاء القسري والعنف الممنهج، مع إيلاء عناية خاصة لكيفية الاستماع لشهادات الضحايا وضمان حمايتهم في أثناء المحاكمة وبعدها.
3. آليات جبر الضرر وضمان الإنصاف
إكساب القضاة فهمًا معمقًا لحقوق الضحايا، وأشكال التعويض الممكنة، وكيفية تنفيذ القرارات، إلى جانب الإلمام بدور الآليات غير القضائية مثل لجان الحقيقة والمصالحة، وآليات التنسيق معها بما يضمن فعالية التكامل بين الآليات القضائية وغير القضائية.
4. تعزيز دور القضاء في الإصلاح المؤسساتي
يسهم القضاة في إصلاح البنية القضائية من خلال تشخيص مكامن الخلل، والدفاع عن استقلال القضاء، والمشاركة في وضع معايير شفافة للتعيين والمساءلة، كما يضطلعون بدور فاعل في مكافحة الفساد، وتطوير مدونات السلوك المهني، وتعزيز الشراكات مع المؤسسات الوطنية والدولية لدعم إصلاح العدالة في سياق انتقالي.
ثالثًا: استراتيجيات تعزيز قدرات القضاة في العدالة الانتقالية
إن النهوض بدور القضاء في العدالة الانتقالية يتطلب اعتماد استراتيجيات تأهيل شاملة، تجمع بين التدريب القانوني المتخصص وتنمية المهارات العملية، بما يمكّن القضاة من مواكبة تعقيدات قضايا انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة، وتتلخص أبرزها فيما يلي:
1. تنظيم دورات تأهيلية متخصصة بالتعاون مع خبراء في القانون الدولي وحقوق الإنسان، تجمع بين الجانبين النظري والتطبيقي؛ لتعزيز مهارات القضاة في التعامل مع القضايا الحساسة، وضمان مواءمة الأداء القضائي مع المعايير الدولية بفعالية.
2. إدماج العدالة الانتقالية ضمن مناهج التأهيل الأساسي والمستمر للقضاة، مع تخصيص مساقات تركز على حقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، وأساليب التحقيق والمحاكمة في سياق العدالة الانتقالية.
3. تنظيم دورات تدريبية وورش عمل دولية وإقليمية تمكن القضاة من الاطلاع على أفضل الممارسات الدولية، وتكييفها بما يتناسب مع الواقع المحلي، مع التركيز على مهارات التحقيق والمحاكمة، والتعامل مع ضحايا الانتهاكات، وآليات جبر الضرر في مراحل العدالة الانتقالية، فضلًا عن دعم التنسيق بين الآليات القضائية وغير القضائية لضمان حماية حقوق الضحايا وتقديم الدعم اللازم لهم.
4. بناء شراكات استراتيجية مع المنظمات الدولية والإقليمية ذات الصلة، لتوفير الدعم الفني والتدريب، والاستفادة من الخبرات في تطوير أدوات العدالة الانتقالية بما يعزّز قدرات القضاة على تنفيذها بكفاءة.
5. إطلاق برامج تأهيلية في الحوكمة والنزاهة، وتنظيم ورش عمل حول الشفافية والمساءلة، مع تفعيل الشراكات الوطنية والدولية لدعم استقلالية القضاء، وتطوير بيئة عمل مؤسسية فعالة.
6. إعداد وإصدار كتيبات ومنشورات مرجعية تحتوي على إرشادات عملية تساعد القضاة في التعامل مع قضايا العدالة الانتقالية، تشمل مبادئ التحقيق في الانتهاكات الجسيمة، فضلًا عن ضمان حقوق الضحايا وتوفير جبر الضرر.
7. إنشاء منصة رقمية متخصصة في مجال العدالة الانتقالية تمكّن القضاة من الوصول إلى مصادر تدريبية حديثة، كالدورات المرئية، والأبحاث القانونية، والمراجع التفاعلية، مما يسهم في تعزيز التعلم الذاتي المستمر، ومواكبة التطورات.
وختامًا، يُعدُّ بناء قدرات القضاة في مجال العدالة الانتقالية ركيزة أساسية لأي مسار وطني يسعى إلى تحقيق الإنصاف والمساءلة في اليمن، ولا يمكن ترسيخ سيادة القانون والمصالحة دون قضاء مؤهل، ومستقل، ومتماسك، قادر على معالجة انتهاكات الماضي بفعالية، واستشراف مستقبل قائم على العدالة، والكرامة، وحقوق الإنسان.
*متخصص في العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان