“صحيفة الثوري” – كتابات:
د. فائزة عبدالرقيب
لم يعد الموت زائرا طبيعيا في بلادنا بل صار شاهدا على انهيار اخلاقي لا يُطاق، واختبارا مخزيا لمدى تفشي الفساد، وامتحانا لإنسانية من يملكون القرار والامكانات ويدفنون رؤوسهم في الرمال. إنها فضيحة اخلاقية كاملة لنظام سياسي وسلطة لا تفكر الا في ذاتها واشخاصها.
يا ترى، من هو التالي؟
كلما مات انسان نبكي مناقبه ونرصع خطب الرثاء بالكلمات الكبيرة لكن في حياته كان يصارع المرض وحيدا، عاجزا عن تغطية تكاليف علاجه، مهملا ومعزولا في سرير المرض، رهينة استجداء “الواسطة” واستعطاف المسؤولين. لا تشفع له خدماته ولا كفاءته ولا حتى مواطنته وحقوقه في العلاج في الداخل او الخارج. صار المرض والابتلاء محاصصة، وكأن الألم يُدار بمعايير الولاء والانتماء السياسي.
سالم الفراص – الصحفي، الاديب، الانسان الحر وصاحب المواقف الوطنية والانسانية والاخلاقية – مات وهو يصارع السرطان. باع هو وزوجته ما تبقى لهما من دنياهم ليدفعا فاتورة العلاج في الهند، ثم عاد جثمانه مثقلا بالديون، مخلفا وراءه قلوبا مقهورة وابوابا للديون تزيد الحزن وتضاعف الاسى.
لم يسأل احد عن اسعافه، لم يهرع مسؤول ولا هيئة ولا صندوق ثقافي لانقاذ حياته.
ثم يخرج علينا هؤلاء انفسهم، بوجوه لا تخجل، ليقدموا التعازي وكأنهم ملائكة رحمة. اين كانت رحمتهم وهو يتألم؟ اين ميزانيات الوزارات؟ اين مخصصات الصناديق الثقافية؟ اين دعم التجار المرتبطين بالسلطة؟
اين هي الانسانية التي نزعمها؟
انسانية المسؤولين صارت شيئًا من الماضي، أثرا منسيا. معيار الانسان لديهم ليس خدمته لوطنه، ولا انتاجه الفكري بل مدى ثقله في الواسطة، ومدى قدرته على تقديم الولاء.
حتى الاصدقاء والزملاء والمقربون باتوا عاجزين. حياتهم صارت وجها آخر لضعف الحيلة. رواتبهم لا تسد رمقا، وهم يعلمون أن هناك من يغرق في المال العام لينفقه في مجاملة نظرائه وزيارة مرضاهم بينما يموت الآخرون بصمت.
مات سالم، ومات قبله حسن عبد الوارث بعد أن باع مكتبته – اثمن ما امتلكه – تلك المكتبة العظيمة التي تشرفت بالتجول بين كتبها ذات يوم. باعها ليشتري رغيفا نظيفا بعزة واباء الشرفاء الذين تعز عليهم انفسهم فيمتنعون عن مد ايديهم لمن ذبحت السلطة ضمائرهم وانسانيتهم. حسن – مثل سالم – افنى عمره القصير صحفيا وكاتبا مميزا، لكنه مات مهملا.
ومات غيرهما كثيرون، وما يزال الشرفاء يتساقطون دون أن يسعفهم أحد.
اليوم، اقول بكل اسف إننا نعيش في ارذل زمن؛ زمن تتآكل فيه قيمة الانسان، تُهان فيه كرامة المثقف والكفاءة والعامل البسيط، واستاذ الجامعة والنساء وتُصادر فيه أبسط حقوق المواطنة، وعلى رأسها حق العلاج.
المرض ليس هبة يطلبها المريض، والعلاج ليس منّة من أحد، بل حق تفرضه المسؤولية ويختبر به ضمير الدولة. لكن لا دولة هنا، ولا حياة لمن تنادي، سوى اجتماعات للاستهلاك الاعلامي وخطب صماء لم يعد المواطن يهتم بها لأنها بعيدة عنه ولا تعنيه.
ما اقسى أن ترى من بيده القرار والمال يتجاهل انقاذ حياة انسان، ثم لا يخجل من تقديم العزاء بعد فوات الأوان.
وما اقسى أن نكتب رثاءنا في كل مرة، وأن نردد “حسبنا الله ونعم الوكيل” لأننا لا نجد عزاءنا الا في الله وحده، له الحمد على كل حال.
لروحك السلام، اخي وزميلي سالم. نم قرير العين، فقد غادرت عالم المعاناة والمرض. و ساحة الإحباط والألم، تلك الساحة التي تشهد فيها اصدقاءك وزملاءك واحبتك يتساقطون واخرون في انتظار زائر الموت الذي قد يأتي غدا لهم… او لي شخصيا.