“صحيفة الثوري” – ثقافة وفكر:
ملخص
فيلم “البداية” الذي كتب قصته لينين الرملي وأخرجه صلاح أبو بدأ نوعاً من وصية فكرية واجتماعية وسياسية، ولكن من دون أن يتسم بتلك الديماغوجية التي كانت تطبع ولا سيما في تلك المرحلة المبكرة من عصر انهيار الأفكار الإنسانية الكبرى
هو موضوع كثيراً ما داعب خيال السينمائيين وغيرهم من المبدعين في مناطق عدة من العالم، وذلك بالتحديد لأنه يمثل تلك الذريعة المثالية التي اعتاد المبدعون وغيرهم من المفكرين في كل مكان وزمان، أن يستخدموها لتشغيل مجاهره المكبرة، ومكبرات الصورة التي يمتلكونها، سعياً وراء التعمق في فهم كثير من الأمور التي تحتاج إلى تجميع أنواع متعددة وغالباً متناقضة من الناس في مكان ناء معين، ودفعهم إلى التناقض وربما التصارع بل حتى التقاتل في ما بينهم، بحيث يضحون من جانب أو آخر كناية عن خلفيات الوجود البشري في هذه الحياة الدنيا، ودراسة الأخلاق البشرية ضمن سياق لحظات زمنية معينة.
ولا شك أن المخرج المصري الراحل صلاح أبو سيف، وبعد تحقيق واحد من أفضل أفلامه الأخيرة، “البداية” (1986)، قبل رحيله بنحو 10 سنوات، وجد الأمر بالغ الغنى والإغراء، حين عرض عليه الكاتب المعروف حينها، لينين الرملي، ذلك السيناريو الذي وجد فيه “جديداً” من ناحية مواضيعه التي غالباً ما توغلت في التيارات الواقعية، ومن ناحية ثانية، ترسيخاً لهم من همومه السينمائية العديدة متضافرة مع همومه الفكرية. وهو الهم في أسئلته الشخصية الكثيرة حول السلطة. ونعرف أن معضلة السلطة كانت دائما وعلى كل مستوياتها، هما أساسا من هموم صلاح أبو سيف أوصله إلى الذروة مثلاً، في تحفته “الفتوة” عن سيناريو بناه نجيب محفوظ اقتباساً من أحداث حقيقية معروفة في عالم تجارة الخضار.
طائرة تسقط في الصحراء
إذاً، أمام تلك الذريعة وقد جسدها لينين الرملي في سيناريو عن فكرة سيقول أبو سيف لاحقاً إنه هو من كان في الأصل اقترحها على الكاتب، وهو ما سينكره هذا الأخير على أية حال، اندفع المخرج الكبير الذي كان حينها يقترب من الـ80 من عمره تقريباً، اندفع ليحقق فيلماً طموحاً ودينامياً يليق بأكثر السينمائيين الشبان شباباً، وعن تلك المسألة التي تشغل دائماً أذهان المبدعين: السلطة.
والحقيقة أن المشروع بدأ منذ بداية العمل عليه بحماسة شديدة، نوعاً من وصية فكرية واجتماعية وسياسية، ولكن من دون أن يتسم بتلك الديماغوجية التي كانت تطبع ولا سيما في تلك المرحلة المبكرة من عصر انهيار الأفكار الإنسانية الكبرى، هذا النوع من الأفلام الذي يريد أن يترك وصية أو يوجه رسالة.
مع صلاح أبو سيف كانت المسألة على تلك الشاكلة، لكنها كانت في الوقت نفسه تحفة سينمائية تربط المغامرة بالكوميديا والبعد الطبقي، بالتفاوت الأخلاقي. كانت من نوع الأفلام التي تبدو في مسار مخرج مميز كصاحب “بداية ونهاية” و”شباب امرأة” وأفلام المرأة البورجوازية المصرية الصغيرة عن روايات إحسان عبدالقدوس بالتداخل مع سيناريوهات لنجيب محفوظ نفسه، نوعاً من استراحة المحارب، لكنها استراحة ثمينة ومثمرة حتى وإن ظل ثمة ما كان يتمناه المتفرج الحاذق من اشتغال أقل خطية على الشخصيات، من الكاتب والمخرج سواء بسواء.
فعم يتحدث “البداية”؟ كما حال أفلام عديدة تتوخى الغاية نفسها، يتحدث عن مجموعة متناقضة من الناس نساء ورجالاً تسقط بهم الطائرة في منطقة صحراوية وتتحطم ليبقى ناج من بين الركاب نحو ثمانية من بينهم اثنان من طاقم الطائرة، الكابتن الذي يبقى لفترة فاقداً وعيه في البداية، والمضيفة، وشخصيات أخرى من بينها تاجر من الطبقة الانفتاحية وصحفي مثقف وفنانة، وما إلى ذلك.

اللجوء إلى مملكة جديدة
هذه المجموعة من الناس تدرك منذ البداية أنها لا يمكنها أن تمضي أياماً قبل العثور عليهم وإنقاذهم المحتمل، في تلك البقعة الخاوية، ومن ثمة يندفعون باحثين عن مكان أقل قسوة ربما يجدون فيه بعض مقومات عيش موقت. وهم بالفعل يعثرون بعد جهود وعذابات مضنية على واحة ظليلة فيها ما يكفي من الماء وأشجار خضراء، مما قد ينقذهم من كارثة قد تحل بهم. ويبدأون هناك في ترتيب شؤونهم وقد اعتقد البسطاء منهم أن الأمور ستكون بينهم ديمقراطية وستسود مساواة مثالية بينهم، لكنهم سرعان ما يدركون أن ما يعتقدونه ليس أكثر من وهم. فبسرعة يتمكن التاجر الذي يلعب دوره في براعة استثنائية، الممثل جميل راتب، في السيطرة على الوضع بحيث يستخدم لغته الديماغوجية وثروته ووعوده المعسولة وقدرته على التفريق بين أفراد الجماعة للسيطرة على الوضع وإعلان نفسه سيداً في تلك المملكة الصغيرة، التي اعتقد نفسه مؤسسها مدعوماً بعدد من رفاق المغامرة الذين ساندوه ضد رفاق آخرين.
وهكذا، كالعادة، انقسمت المجموعة فريقين في انقسام يمكن اعتباره طبقياً ولكن أيضاً أخلاقياً وبالتالي سياسياً. وبدلاً من أن يدور الصراع ضد الطبيعة والشح القادم وما إلى ذلك، يضحي انقساماً بين مجموعتين من الواضح أن إحداهما، تحظى بتعاطف الفيلم والمتفرجين معاً، تمثل محور الخير، والثانية محور الشر. ولكن الفيلم وعلى رغم هذه الخطية التي قد نراها اليوم مبتذلة في خطيتها، عرف كيف يترك مجالاً عبر حبكته وحواراته وتوزع المواقف والدلالات فيه، لقدر كبير من التركيز على السلطة كموضوع أساس، ولكن من خلالها على الطبيعة البشرية وكيف تنبني المجتمعات انطلاقاً من تلك الطبيعة، وما إلى ذلك.
المصدر: اندبندنت عربية