صحيفة الثوري- كتابات:
أ.د. محمد علي قحطان
كثر في الآونة الأخيرة ترديد مبرر أن إيقاف تدهور سعر صرف الريال اليمني بطبعته الجديدة مقابل العملات الأجنبية مرتبط بإعادة صادرات النفط والغاز. وبرأينا أن هذا الاستخلاص سطحي وغير واقعي، والتسليم به عمل خاطئ للأسباب التالية:
أولاً: إن تدهور سعر صرف الريال اليمني ليس وليد توقف صادرات النفط والغاز، إذ أن تدهور سعر صرف العملة الوطنية اليمنية بدأ يتصاعد منذ ما بعد حرب عام 1994 وما تلاه من عدم الاستقرار السياسي والحروب وتغلغل مظاهر الفساد، وبالأخص في مجال استغلال النفط والغاز، الأمر الذي كان له الأثر الكبير على اهتزازات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وارتفاع مؤشرات البطالة والفقر وتذبذب أسعار الصرف، وارتفاع مستمر للتدهور الاقتصادي والإنساني، وهو العامل الرئيسي لتفجر ثورة فبراير 2011 الشعبية، التي أُجهضت بانقلاب سبتمبر 2014 وبداية الحرب الممتدة منذ ذلك الحين وحتى وقتنا الحاضر بتغذية خارجية، أفقدت اليمن ما كان قد تشكل لديها من المكتسبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ثانياً: النظام الاقتصادي اليمني، حافظ رعاته على أن يبقى نظاماً اقتصادياً ريعياً يلبي طموحات خاصة فقط. إذ ظلت النخبة السياسية الحاكمة غارقة في استنزاف عائدات النفط والغاز الطبيعي، دون الالتفات إلى موارد الثروة والمقومات الاقتصادية الأخرى المتاحة للتنمية الاقتصادية، الأمر الذي أدى إلى انحسار تنمية الموارد الاقتصادية المتاحة وتعزيز بنية التخلف الاقتصادي والاجتماعي. فلم يتم تنويع استغلال الثروات الطبيعية غير النفط والغاز، وأُهملت كل مقومات النهوض الاقتصادي المتنوعة. فاليمن مثلاً، غنية بالثروات الزراعية والأنشطة المرتبطة بها، وكذا بمقومات التنمية في مجال استغلال الثروات المعدنية والصناعات التحويلية، وكذا غنية بالثروة السمكية، وتملك مقومات سياحية هائلة، يمكنها أن تجعل من اليمن قبلة للسياحة الإقليمية والدولية. ومن شأن ذلك التأثير الإيجابي على تنمية كافة قطاعات الاقتصاد الوطني.
ثالثاً: لم تعمل الأنظمة السياسية السابقة على تعزيز الاعتماد الذاتي على الموارد الوطنية، بل تم تعزيز الاعتماد على المساعدات والهبات والمنح الخارجية، وإهمال موارد الدولة. إذ عم الفساد في الأوعية الإيرادية للدولة، وأخذ يتجذر دون أية مقاومة، فقد كانت التقديرات تشير إلى أن إيرادات الدولة تُبدد في أوجه مختلفة للفساد، وما يصل لخزينة الدولة من إجمالي الطاقة الإيرادية من مختلف مصادر الدخل، وبالأخص الرسوم والضرائب بأنواعها المختلفة، سوى 15% فقط، وما يُقدر بنحو 85% من إجمالي الطاقة الضريبية لا يصل إلى أوعية الدولة. وكانت عائدات النفط والغاز تغطي مجمل إنفاقات الدولة المركزية والمحلية بصورة رواتب وأجور ونفقات تشغيلية، ومخصصات بسيطة للغاية توجه لمجالات التنمية المختلفة. وكل ذلك قد كرس نمط الاعتماد على عائدات النفط والغاز والمساعدات والهبات والمنح والقروض من الخارج. وبالتالي، فإن آليات نظام الحكم بمستوياتها المختلفة قد تأقلمت على النمط السائد والمتعاظم حالياً مع شدة انفلات مؤسسات الدولة وزيادة الإنفاق العام الداخلي والخارجي.
رابعاً: منذ بداية التسعينات تم التحول من أسلوب التخطيط المركزي الشامل، والذي كان يُغذى بالمساعدات والقروض الخارجية لإنشاء البنية الأساسية للدولة اليمنية بحكم تصنيفها كدولة متخلفة، إلى أسلوب التخطيط التأشيري غير الملزم، الأمر الذي أدى إلى أن خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مع الضعف الشديد لإدارة الاقتصاد الوطني، لم تُنفذ، وظلت، كما يُقال، حبراً على ورق. الأمر الذي نشأ معه في مؤسسات الدولة أنماط انتهازية تعمل على تلبية مصالح خاصة على حساب تنفيذ المشروعات العامة للدولة، والتي كانت تبينها خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية كوسيلة لتغذية جيوب الفساد، وبالتالي تتراجع وتيرة التنمية، ولا يُرى في الواقع سوى المشاريع التي تمولها وتديرها صناديق ومنظمات التنمية الدولية، وغالباً ما يتعثر تنفيذها بسبب غياب الإرادة الوطنية.
كل تلك العوامل قد تركت إرثاً بالغاً على منتسبي مؤسسات الدولة وهي في حالة الانهيار. وبالتالي استمر الوعي بعدم قدرة مواجهة التدهور والانهيار، طالما وأن هناك تراجعاً في عوائد صادرات النفط والغاز. الأمر الذي يُحتم على القيادات السياسية والتنفيذية الحالية، الخروج من حالة الوهم والضعف بدعوى أن الحوثيين يمنعون تصدير النفط والغاز، والالتفات إلى موارد الدولة الأخرى المتنوعة والمتعددة، والممكن في حالة أن يتم استغلالها ومواجهة الفساد، إيقاف التدهور ومواجهة الانهيار في سعر صرف الريال اليمني بطبعته الجديدة، والعمل على تعافي العملة الوطنية. ويمكن ذلك بالاستفادة من السياسات والإجراءات المتبعة في صنعاء في مجال السياسة النقدية وتثبيت أسعار السلع والخدمات. خصوصاً وأن السلطة الشرعية تملك، بالإضافة إلى الاعتراف الدولي، مقدرات اقتصادية كبيرة، يمكن في حالة استغلالها أن تُواجه الأزمة المالية والانهيار الاقتصادي والإنساني، وتخرج من حالة الذهول والخذلان إلى مستوى فاعل يقود المواجهة والتحول نحو تحقيق السلام واستعادة الدولة.