آخر الأخبار

spot_img

ما بعد غزة وما بعد إيران

صحيفة الثوري-كتابات: 

أ. عبد الباري طاهر

في إعلان الحرب على غزة حَدَّدَ نتنياهو الهدف الرئيس: القضاء على حماس، وعودة الرهائن.

كان القضاء على حماس مَطلوبًا، إلا أنَّ الهدف من وراء ذلك هو القضاء على غزة بحرب إبادة يشنها عبر القصف المتواصل، والحصار القاتل. ومَنْ لم يُقْتَل بالقصف والتجويع تَقتلهُ «المساعدة الإنسانية»: الإسرائيلية الأمريكية!

حرب الإبادة في غزة، والاستيطان في الضفة، هي الفصل الأخير من «سردية التهجير»، وقيام دولة يهودية من البحر إلى النهر؛ وهذا جوهر الصراع.

رَبطُ المخطط بطوفان الأقصى وارد، ولكنه ليس كُلَّ شيء. فالمخطط متواصل منذ تأسيس الحركة الصهيونية، والحروب التي تشنها إسرائيل في فلسطين وعليها منذ عشرينيات القرن الماضي.

تَخادُم الاستبداد، والثورات المضادة، والاستعمار أساس الاحتلال الاستيطاني، ونظام الفصل العنصري، والتطهير العرقي، وإرهاب العصابات الصهيونية، والاغتيالات الكاثرة. فالحروب المتواصلة لا غاية لها غير استكمال الاحتلال الاستيطاني، ووضع المنطقة كلها تحت الهيمنة الصهيونية.

يتباهى نتنياهو أنه قد اتفق وترامب في دورته الأولى على قيام «شرق أوسط جديد»؛ وهو المشروع الذي كرّس له بيريز كتابه «شرق أوسط جديد»، ولكنه يقدمه بصورة سلمية.

أما نتنياهو في كتابه «مكان تحت الشمس»، ومن خلال تحالفه مع اليمين التوراتي الصهيوني، وحروب الاستيطان والإبادة التي يقوم بها، ومدّ التوسع إلى لبنان وسوريا، وتهديد مصر والأردن – فشرقُهُ الأوسط لا يختلف عن قراءة برنارد لويس لإعادة المنطقة العربية إلى مكوناتها الأولى: الإثنية، والقبلية، والطائفية، والعرقية.

المشاريع الاستعمارية ضد الأمة العربية قائمة وقيد التنفيذ، و«طوفان الأقصى» كان الرد القومي على خُطَّة يجري تنفيذها ويعيش الفلسطيني تفاصيل تفاصيلها، وكان المنتظر ردّ محور المقاومة الذي تقوده إيران.

كان ردّ «محور المقاومة» خاطئًا؛ إذ تحوَّل هذا المحور إلى مجرد مساندة، ونأت إيران وسوريا بنفسيهما عن الحرب تحت إغراءات أميركية، وتعرّض حزبُ الله للتدمير والاختراقات داخله، مع فساد علاقته بالداخل اللبناني، وتورطه في قمع الثورة في سوريا. والأخطر الارتهان لأمر وليّ الأمر (الفقيه) في إيران.

كما أنَّ الضغوط الأمريكية الكبيرة حدّت من مساندة الحشد الشعبي في العراق؛ وهي مساندة جدُّ محدودة، فانكسر حزب الله.

وسقطت سوريا الموالية لإيران والمحايدة في الحرب على غزة ولبنان، وتصدّت أميركا وبريطانيا، ولاحقًا إسرائيل، لضرب البنية التحتية في مدن الشمال اليمني و«أنصار الله» الذين قاموا بإغلاق باب المندب، وتوجيه صواريخهم ومسيَّراتهم للكيان الصهيوني؛ معلنين التزامهم بالدفاع عن غزة، إلا أنَّ التأثير محدود بسبب الأوضاع الداخلية والإمكانات وبُعد المسافة.

وجَّهت إسرائيل ضربةً قويةً لإيران أُعِدَّ لها وُوُضِعَت خطتها مُسبقًا، مدعومةً بالوضع الداخلي المختل والاختراقات الراعبة التي لا تقلّ خطورةً عن العدوان الصهيوني المدعوم أمريكيًّا وأوروبيًّا.

ضعف المنطقة العربية، وطغيان وفساد الحكم بها – مُساءل عن احتلال فلسطين، وتغول إسرائيل. والأمر نفسه ينطبق على إيران. فالثورة المضادة فيها، و«ولاية الفقيه»، وإدارة الظهر لـ«ولاية الأمة» (المشروطة) التي تبنتها إيران منذ مطلع القرن الماضي؛ وكانت أساس الدعوات الإصلاحية، ومطلب الشعب الإيراني، ورجال الدين الشيعة، وكل القوميات الإيرانية؛ كل ذلك كان «كعب أخيل» في تجرؤ إسرائيل، والعدوان الصهيوني الإمبريالي على الأمة الإيرانية.

في فترة زمنية قياسية استطاعت إيران الردّ على العدوان الإسرائيلي الأمريكي، وفاق ردها تصورات إسرائيل وأميركا. ورغم التعتيم الشديد الذي تفرضه إسرائيل على وسائل الإعلام وعلى مواطنيها، إلا أن مأزق الكيان الصهيوني غير مسبوق، وتتغاضى أو تتواطأ معها وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية.

فإسرائيل تمنع دخول الصحفيين ووسائل الإعلام إلى غزة، وتقوم بقتل العشرات من الصحفيين والصحفيات الفلسطينيين مع عائلاتهم، وتصمت وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية صمت القبور.

تواصل الرّد الإيراني مهم. فإسرائيل هي الوجود الأمريكي الأهمّ؛ وهي مصلحتها العظمى، وحليفها الأكبر، وخط دفاعها الأول. وشعورها – كوجود أجنبي – بالتهديد الوجودي حاضرٌ وقوي.

وربما كانت الانتفاضتان الفلسطينيتان: الأولى، والثانية، وطوفان الأقصى، والرد الإيراني إنذاراتٌ مهمة بإمكانية إنهاء هذا الكيان القائم على الاحتلال الاستيطاني، والفصل العنصري، ونظام التطهير العرقي.

يردّد نتنياهو بزهو أنه وترامب متفقان أنَّ القوة قبل السلام. وقوتهما ليست إلا العدوان، وحروب الإبادة، وضد الإنسانية؛ فهي «حق القوة». فقوة العدوان لا تصنعُ سلامًا، وقد تفرضُ الاستسلام.

وقوة أميركا وإسرائيل فوق الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وفوق الشرعية، والمواثيق، والاتفاقيات، والقانون الدولي.

ما حصل في إيران من اعتداء على المفاعل النووي اعتداءٌ على أمة وشعب، ويعكس غرور القوة، وهمجية عدوان الكيان الصهيوني والإمبريالية الأمريكية والدعم الأوروبي. وهو لا يعني حرمان بلدان العالم من القوة فحسب، وإنما أيضًا تجريدها من المعرفة والتقنية والحداثة وامتلاك منجزات الحضارة والتقدم العلمي.

إنها حرب تدمير تتغيّا إزالة الكيان الإيراني وتمزيق وحدته كأمة، وهي – في نفس الوقت – رسالةٌ مفتوحة للاتحاد الروسي، والصين الشعبية، والبلدان الإسلامية، والعربية بخاصة، حتى ممولي الحروب ودافعي «الخُوّة».

إنَّ الرد الحقيقي على العدوان لن يكون فقط بالضرب على المصالح الأمريكية؛ وأهمها وأخطرها إسرائيل، وإنما أيضًا بإصلاح الأوضاع الداخلية، وتمتين الوحدة القومية، والتخلي عن الاستعلاء الديني، وامتلاك رجل الدين السلطة المطلقة، والابتعاد عن نشر العداوات القومية والفُرقة المذهبية.

قال المستشار الألماني: “إنَّ إسرائيل تخوضُ بالنيابة حروبَ أوروبا القذرة”. فهي في حقيقة الأمر تخوض حروب الاستعمار بمختلف صوره وأشكاله؛ في حين أنَّ إيران تتصدى للعدوان دفاعًا عن أرضها وأمَّتها، وعن غزة وفلسطين والأمة العربية وعالمنا الثالث.

وللباطل صولةٌ ثم يضمحل. (بل نَقذِفُ بالحقِّ على الباطل فيدمغهُ؛ فإذا هو زاهق). [الأنبياء: الآية 118]