عدن- صحيفة الثوري:
يمثل السخط العام إزاء أداء الحكومة الشرعية واحدة من أبرز سمات اللحظة الراهنة في اليمن، وقد تطور هذا الشعور إلى إضرابات واسعة طالت عدة قطاعات خدمية منذ العام الماضي، وشهد الشهر المنصرم نشاطاً احتجاجياً نوعياً في اثنتين من أهم المدن الخاضعة لسيطرة الحكومة، حيث نظمت النساء في كل من عدن وتعز مظاهرات حاشدة للمطالبة بالخدمات الأساسية ووضع حل للانهيار المتواصل للعملة الوطنية.
الريال اليمني كان قد شهد استقراراً نسبياً في الأشهر التي تلت تأسيس مجلس القيادة الرئاسي في أبريل 2022، لكنه عاود الانهيار أواخر العام نفسه بعد أن توقفت صادرات النفط بفعل استهداف الحوثيين لموانئ التصدير تحت سيطرة الحكومة، وتسارع خلال العام الحالي وصولاً إلى حدود الـ3000 ريال يمني مقابل الدولار، الأمر الذي يعكس أزمة تتقاطع فيها ملفات السياسة والأمن والاقتصاد على نحو مكثف بالنسبة لكثيرين.
في هذا السياق، نظم “منتدى مهام اليمن” مساحة جديدة على منصة إكس مساء الأحد ١٥ يونيو/حزيران تحت عنوان “الدولة في زمن الحرب.. هل تقوم الحكومة اليمنية بوظائفها؟”، سعى خلالها مجموعة من الخبراء متنوعي التخصصات للإجابة على هذا السؤال المحوري ومقاربته من عدة مناظير: سياسي، عسكري، اقتصادي وإنساني.
أزمة قرار سياسي
الباحث في مجموعة “الأزمات الدولية” أحمد ناجي انطلق في حديثه من اللحظة الراهنة التي تطغى عليها الحرب الإيرانية الإسرائيلية، ويسود فيها التنافس الدولي، معتبراً أن هذه الحالة تعكس تغييراً كبيراً لم يتحدد اتجاهه بعد، وأنها تستدعي سؤالاً كبيراً على علاقة بموضوع المساحة وهو “أين موقع اليمن من كل ما يجري؟”، وأعرب ناجي عن ضرورة أن يكون لليمن كدولة “عقل سياسي” يحدد تموضعها إزاء ما يحدث بحكم التواجد جغرافياً في قلب هذه المعادلة.
بالنسبة لناجي، تضيء هذه الوضعية على مشكلة القرار السياسي الذي قال إنه تسرب من أيدي اليمنيين إلى يد الخارج، بحيث أصبح هناك من يقرر عن اليمن أين يتموضع، بغض النظر عن مصلحة البلد الاستراتيجية.
وعزا ناجي مشكلة غياب القرار السياسي إلى “وجود حالة من تضارب القوى داخل السلطة بغرفتيها، مجلس الوزراء والمجلس الرئاسي، لأن ما حدث عام 2022 هو جلب التناقضات من الميدان ووضعها داخل المجلس الرئاسي، واحتفظت كل قوة برؤيتها السياسية، ولم تحدد أي جهة ما الذي يجب أن يكون عليه هذا المجلس.”، واعتبر ناجي أن الأطراف المعنية اتخذت وضعية الهروب بدلاً عن مواجهة هذه المشاكل، وهو ما أدى إلى خلق رمادية قاتمة تجعل من الصعب معرفة موقف الحكومة ومجلس الرئاسة من بعض القضايا.
إلى جانب التناقضات داخل المؤسستين، أشار ناجي إلى “احتقان” حاصل بينهما، والذي عزاه الباحث إلى غياب لائحة داخلية تنظم عمل المجلس الرئاسي وتحدد علاقته مع الحكومة. وتعرض ناجي أيضاً لما قال إنه منطق لدى الحكومة يفترض أن “الخارج سيأتي للحرب بالنيابة عنها”، وما يسفر عنه ذلك من حالة فراغ وعدم قدرة على قراءة الواقع.
إلى ذلك، أشار الباحث لأسلوب الإدارة الذي اعتمده المجلس الرئاسي متمثلاً في اجتماعات الزووم، معتقداً أنه أسس لحالة من الانفصال عن الواقع لدى القيادة السياسية، وحرمها من ميزة الاتصال بالشعب؛ بالإضافة إلى أن تبدد آمال الناس بالقيادة أكثر من مرة قد دفعهم لعدم المراهنة عليها واستبدالها بقدر من الاعتماد على الذات، وعلى شبكات المصالح البديلة التي نشأت في المحافظات.
ولاحظ الباحث أن الحكومة أخذت تدريجياً تسحب مسؤوليتها عن الجغرافيا اليمنية في الخطاب الرسمي، بدءاً من المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، ولاحقاً خرجت حتى أجزاء من الجغرافيا المحررة من دائرة الاهتمام، وأصبح الحديث يتركز على مسائل خدمية في نطاقات محدودة مثل كهرباء عدن، ومع ذلك فإن سياسة التجزؤ هذه ثبت فشلها، بحسب ناجي.
ناجي لم يعفِ التدخل الخارجي من المسؤولية عن هذا الوضع، واعتبر أن الأثر السلبي لهذا التدخل يساهم في تحويل كل بديهي إلى إشكال، كما يتمثل ذلك من خلال إعاقة انعقاد البرلمان اليمني، والسعي لاستبداله بـ”هيئة التشاور والمصالحة”؛ مضيفاً أن هذا الأمر ينصرف على وثيقة الحوار الوطني، التي تمثل وثيقة نظرية ممتازة، لكن التعقيدات التي خلقها الدور الإقليمي تجعل تطبيقها صعباً، حيث يرفضها كل من الحوثيين والمجلس الانتقالي الجنوبي.
وظيفة أمنية تعيقها الانقسامات
وبخصوص الأداء العسكري والأمني، اختار الخبير العسكري علي الذهب مقاربة الموضوع من زاوية التحديات التي تواجه قيام الحكومة بوظيفتها الأمنية والعسكرية خلال فترة المجلس الرئاسي، وأبرزها تحدي مواجهة المتمردين الحوثيين، بحسب الذهب.
وعدد الذهب مجموعة من “الشواغل الأمنية” أو مظاهر هذا التحدي، وهي الهجمات على مواقع نفطية، والتخريب في مناطق سيطرة الحكومة عبر الخلايا أو “المجموعات الإيذائية” حسب توصيف الحوثيين، إضافة إلى خلايا أخرى منخرطة في عمليات تهريب الأسلحة والتجسس، وهذه الأخيرة استطاعت الأجهزة الأمنية في إطار الحكومة القبض على عدد منها ومحاكمتها، وفق رأي المتحدث.
وأكد الذهب على خطورة التحدي المتمثل في تهريب الأسلحة للحوثيين باعتباره أبرز أشكال الجريمة المنظمة والعابرة للحدود، إلى جانب ترويج المخدرات وتجنيد الشباب وإرسالهم إلى مناطق ملتهبة في العالم، خاصة أوكرانيا وروسيا، من قبل جهات تابعة للمتمردين الموالين لإيران.
كما تطرق الذهب للعمليات العسكرية التي شهدتها المحافظات المحررة خلال السنوات السابقة، والتي جاءت لغرض “فرض إرادة سياسية” في كل من شبوة وأبين حسب تعبيره، في إشارة إلى سيطرة القوات التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي على المحافظتين، وأضاف أن المملكة العربية السعودية حالت دون توسع هذه القوات في حضرموت.
إلى ذلك، قال الذهب إن هناك التحدي المتعلق بالإرهاب، مشيراً إلى التوظيف السياسي من قبل الأطراف المتصارعة داخل الحكومة لهذا الملف، واستحضر الخبير العسكري ما وصفه بـ”الصعود المفاجئ لأنصار الشريعة وإعلان سعيد عاطف العولقي زعيماً للتنظيم” مؤخراً.
ورغم أن الأجهزة الأمنية المحسوبة على الحكومة تبذل جهوداً فيما يتعلق بـ”الجريمة الداخلية” حسب ما لاحظ الذهب، مثل حوادث القتال والانتحار وتجارة المخدرات والاتجار غير المشروع بالأسلحة والاتجار بالبشر، “ولكن لم نعثر على نشاط كلي عبرت عنه السجلات الأمنية لمختلف المحافظات”، قال المتحدث، مضيفاً: “هذا يعكس الانقسام الأمني داخل منظومة وزارة الداخلية، وهو ليس انقساماً تجاه أداء المهمة، فهم يعملون بأعلى وتيرة للحفاظ على السكينة، ولكن من منطلق الحفاظ على الذات والمصلحة الخاصة”.
ورأى الذهب أن هذه المشكلة تنطبق على القوات المسلحة التي “تظل اسماً بلا مبنى” حد وصفه، مؤكداً على أن التحدي هنا يتمثل في دمج القوات المختلفة ضمن هيئة قوى بشرية متكاملة في ركنيها الإداري والمالي، لكنه استبعد ذلك دون التزام السعودية والإمارات ببنود الدمج الواردة في وثيقتي اتفاق الرياض واتفاق نقل السلطة.
اقتصاد معلق على ذمة الحرب
في تناوله للوظيفة الاقتصادية للحكومة، استهل الباحث الاقتصادي حسام السعيدي حديثه بالإشارة إلى طول أمد الحرب وتحولها إلى “حرب منسية”، الأمر الذي أدى إلى تعطيل آلية عمل الحكومة، وإلى ظهور المحاصصة كنتيجة لبروز قوى جديدة في الميدان.
هذا الحال جعل الوضع الاقتصادي مرتبطاً بدرجة أساسية بالوضع السياسي، وأصبحت الوزارات الحكومية المختصة بالملف الاقتصادي غير قادرة على اتخاذ قرارات بعيداً عن واقع الحرب الذي تحول إلى “حالة قائمة بحد ذاتها” بحسب السعيدي، الذي أضاف أن المحاصصة والسعي لإرضاء جميع الفرقاء داخل الحكومة يعيق محاربة الفساد والإصلاح الاقتصادي.
إلى جانب ذلك، قال السعيدي إن هناك تدويلًا للملف الاقتصادي اليمني، وأصبح المجتمع الدولي والإقليمي يتدخل في قرارات البنك المركزي اليمني، في إشارة إلى القرارات التي اتخذها البنك العام الماضي ضد مجموعة من البنوك التي رفضت نقل مراكزها من مناطق سيطرة الحوثيين، واضطرت الحكومة لإلغائها بسبب ضغوطات أممية وسعودية.
من جهة أخرى، لا تستطيع الحكومة بسبب الهشاشة التي خلقتها حالة الحرب المديدة السيطرة على عمليتي توزيع وتوريد الموارد داخل المحافظات، حسب ملاحظة المتحدث.
واستبعد السعيدي أن يكون لنفقات الحكومة والمجلس الرئاسي تأثير كبير فيما يتعلق بالأزمة الاقتصادية، لأن أي عملية إدارية لا بد لها من نفقات، ولأن الكثير من هذه النفقات يأتي من الخارج، بحسب الباحث الذي يرى أن المشكلة الأساسية في عدم قدرة المجلس الرئاسي على اتخاذ قرار استعادة مؤسسات الدولة وحسم الحرب.
ورأى السعيدي أن لا حل لمواجهة التدهور الاقتصادي القائم، سوى بمواجهة أساس المشكلة، أي حشد الموارد لصالح حسم المعركة العسكرية، لأن بقاء الوضع الحالي ينذر بانهيار الأوضاع، مجدداً أمله في أن اليمنيين يستطيعون إنقاذ أنفسهم من هذا المأزق.
مساعٍ “متأخرة” لاستيعاب أموال المانحين
تمهيداً لحديثها عن أداء الحكومة في الملف الإنساني، قالت أفراح الزؤبة، مدير الجهاز التنفيذي لاستيعاب تعهدات المانحين سابقاً، إن من الخطير تركيز الانتقادات للوضع المعيشي على المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، وإغفال ما يعانيه المواطنون تحت سيطرة الحوثيين.
“هذا يؤدي إلى خلط سياسي خطير يؤثر علينا وعلى قضيتنا كيمنيين، ويعمل كقناع للوضع تحت سيطرة الحوثيين، وكأن المشكلة فقط في مناطق الحكومة”.
واعتبرت الزؤبة أن من المهم عند انتقاد الحكومة الأخذ في الاعتبار أنها لا تزال هي المظلة التي يلجأ إليها الهاربون من بطش الحوثيين، وأنها لا تتوقف عن البحث عن حلول للمشاكل المعيشية، واستشهدت بوضع الطائرات المدنية في مطار صنعاء التي تركها الحوثيون للقصف الإسرائيلي، في حين تولت الحكومة إعادة اليمنيين العالقين في المطارات خارج البلاد إلى صنعاء.
وفيما يخص الدعم الدولي لليمن، قالت الزؤبة إن هذا الدعم اقتصر على الإغاثة الإنسانية في ظل الحرب، وأن ذلك كان له تأثيرات سلبية مثل “تغيير تفكير الناس باعتمادهم على أنفسهم”، حد وصفها.
وأضافت المتحدثة: “خلال السنوات الأخيرة، حاولت كثير من الجهات، بما فيها الحكومة، الضغط من أجل إعادة العمل بالمنهج التنموي، وكان هناك بعض التحسنات في هذا المجال، من أهمها مشاريع مع البنك الدولي، ومشاريع مع الألمان، وكذلك البرنامج السعودي”، لكن هذا الاتجاه واجه خلال العامين الأخيرين مشاكل سياسية واقتصادية دولية أثرت على قدرة المانحين على الدعم، أحدثها إيقاف “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية”.
وعلى الرغم من تراجع مساهمات المانحين، قالت الزؤبة إن المؤسسات الحكومية تعمل على تجسير العلاقة مع الجهات المانحة، بحيث تحدد الدولة الأولويات.
ونوّهت المتحدثة إلى الدور الذي لعبه الحوثيون في حرمان اليمنيين من الاستفادة من مساعدات المانحين، عبر التحكم بها وتوجيهها لأغراضهم العسكرية والسياسية، مستغلين أن الجزء الأكبر من هذه التعهدات كان يتوجه إلى تحت سيطرتهم بحكم الكثافة السكانية، لافتةً إلى أن حملة الاختطافات التي نفذها المتمردون بحق موظفي المنظمات، وإغلاق الشركات العاملة في مجال التقييم والمتابعة، كانت من أجل هذه الغاية.