“صحيفة الثوري”- (رصيف22):
سامر سالم أحمد
الجنة؛ كلمة واحدة تحمل في طياتها آلاف الأحلام والأسرار، عالمٌ ساحرٌ يلوح في أفق خيالنا منذ أن بدأ الإنسان يحلم. لكن في عصر التكنولوجيا والترندات، يعيد الشباب تعريف مفهوم الجنة بشكلٍ غير مسبوق. بين من يراها مكاناً للرفاهية المادية بلا حدود، ومن يعتبرها حالة من الصفاء الروحي، تتنوع التصورات وتتصادم، يذكر أنه خلال احتفالية تحت عنوان “مصر تفتخر بعروبتها”، التي أقيمت بقاعة سيد درويش بأكاديمية الفنون في القاهرة، قالت وزيرة التضامن: “إن الفنون بتشكل وجداناً وبترتقي بنا، وإنه في الجنة هيكون فيها مزيكا وباليه”. يومها قامت الدنيا ولم تهدأ على هذه التصريحات، وهناك من تفهم الأمر على أساس أن الجنة تمثل كل ما يحبه الإنسان، وهناك من رفضه انطلاقاً من كونه رافضاً للموسيقى والرقص والباليه.
تصريح وزيرة التضامن المصريّة عن وجود الموسيقى والباليه في الجنة أضاف بعداً جديداً للنقاش، حيث أصبحت الجنة ترنداً على السوشال ميديا. لكن أحداً لم يسأل نفسه سؤال: ما الجنة؟ وهل نبحث عن جنة تحقق أحلامنا الدنيوية أم عن جنة تلامس أعماق أرواحنا؟
الإجابة قد تكون في قلب كل واحد منا، لكن النقاش مفتوح!
الجنة، حلمٌ عالمي عبر العصور
من التوراة إلى الإنجيل والقرآن، كل الكتب السماوية تحدثت عن الجنة، لكنها تركت تفاصيلها غامضة، وكأنها تقول لنا: اكتشفوا أسرارها بأنفسكم! وهذا بالضبط ما فعله البشر عبر العصور. من الأدب إلى الفن وحتى الفلسفة، الجنة كانت ولا تزال مصدر إلهامٍ لا ينضب. هل تتذكرون ملحمة “الفردوس المفقود” لجون ميلتون، أو رواية “الجنة المفقودة” لأورسولا لي غوين؟ كلها أعمالٌ حاولت أن ترسم لنا صورةً لتلك الجنة التي نحلم بها.
لكن السؤال الأكبر الذي يظل يلاحقنا: كيف تبدو الجنة؟
في العصر الإسلامي المبكر، كانت الجنة تُفهم على أنها مكان مادي وحسي، حيث النعيم الملموس من طعام وشراب وزواج وحور عين.
هذا التصور كان يعكس ثقافة المجتمع العربي في ذلك الوقت، حيث كانت الحياة الصحراوية القاسية تجعل الناس يحلمون بالخضرة والماء والراحة. وقد أوضح بكر عبدالحافظ الخليفات في كتابه “الجنة في القرآن الكريم” أن الله “أسماها الجنة وخصها بتلك المفردة تقريباً لمفهومها عند العرب بداية في الجزيرة العربية التي كان مناخها حاراً جافاً، وكان العرب وسكان الجزيرة العربية عندما يذهبون إلى بلاد الشام في رحلة الصيف كانوا يستمتعون بجمالها وطبيعتها فهي بلاد الخضرة، فكانت الجنة وهي الشجر الكثيف المتشابك أقرب فهماً وباباً لقلوبهم، لذلك جعل الله تعالى الجنة ثواباً منه لعباده الصالحين وزينها ورفعها وجعلها غاية للصالحين تستوجب العبادة والعمل والمثابرة”، على حد تعبير الكاتب.
في العصر الإسلامي المبكر، كانت الجنة تُفهم على أنها مكان مادي وحسي، حيث النعيم الملموس من طعام وشراب وزواج وحور عين
كما ورد في المصادر الإسلامية، منها كتاب “حياة محمد” للمستشرق ألفريد غيوم، وصفاً للجنة بناءً على الأحاديث النبوية والمصادر الإسلامية. ويشير غيوم إلى أن وصف الجنة في الإسلام يعكس ثقافة العرب في ذلك الوقت، حيث كانت الجنة تمثل كل ما يتمناه الإنسان من نعيم مادي وروحي.
من سبق إلى الجنة، آدم أم محمد؟ قصة أول هبوط إنساني على الجنة
وفقاً للعقيدة الإسلامية والإبراهيمية عموماً، آدم هو أول البشر وأول نبي، وقد دخل الجنة قبل النبي محمد، وقد وصفت سورة “البقرة” في القرآن الكريم جنة آدم بشكل موجز دون تفاصيل دقيقة، مما يجعل من الصعب تكوين صورة واضحة عنها. ورد في الآية 35 من هذه السورة: “وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ”، مما يشير إلى مكان مليء بالنعم والراحة، لكن دون وصف تفصيلي.
أما النبي محمد فقد دخل الجنة ليلة الإسراء والمعراج، وفق السرديات الإسلامية، وكانت تلك فرصةً لرؤية الجنة وتفاصيلها بشكل مباشر، إذ عرج النبي من مكة إلى القدس، ثم صعد إلى السماوات السبع، حيث رأى العديد من العجائب، بما في ذلك الجنة
رسم الجنة بالألوان، كيف حوّل الفن الإسلامي الوعد الإلهي إلى لوحات مذهلة
في قلب دمشق، داخل الجامع الأموي الشهير، تقبع لوحة فسيفساء أخّاذة تُدعى “مصورة بردى”، تُصوّر مشهداً يُعتقد أنه يمثل الجنة كما تخيلها الفنانون في العصور الإسلامية الأولى. هذه اللوحة ليست مجرد عمل فني، بل هي نافذة على رؤية الإسلام للجنة، وتجسيدٌ لجمال الطبيعة والروحانية التي وعد بها المؤمنون. وهي وصفٌ دقيقٌ ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية. تُصوَّر هذه اللوحةُ الجنةَ على أنها مكان مليء بالجنات والخضرة، تجري من تحتها الأنهار، وتُزينها الأشجار المثمرة والقصور الفاخرة، كما جاء في القرآن (سورة الرعد؛ 35): “مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ”.
وقد أكد الباحث المتخصص في الفن الإسلامي أوليغ غرابار، في كتابه “تكوين الفن الإسلامي” أنها: “ترمز إلى الجنة التي وعد الله بها المؤمنين، أي أنها كانت نوع من أنواع الحوافز للمؤمنين، فيمكن ربط هذا المنظر بالوصف الذي ذكر في الآية 57 من سورة النساء: “وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا”.
أبو العلاء المعري يقلب تصورات المسلمين رأساً على عقب في “رسالة الغفران”
هل تخيلتم يوماً أن تكون الجنة مكاناً للحفلات والأضواء؟ هذا ما قدمه أبو العلاء المعري في “رسالة الغفران”، حيث حول الجنة من مكان للنعيم الروحي إلى عالم من الملذات الحسية.
في جنة المعري، لا يوجد هدوء تقليدي، بل مجالس للغناء والرقص، ولذائذ الأكل والشرب التي تثير الغرائز وتجعل الجنة أشبه بحفلة لا تنتهي؛ تصورٌ يختلف تماماً عن الصورة النمطية التي تروج لها الأدبيات الإسلامية التقليدية. فبدلاً من التركيز على الجوانب الروحية والروحانية، صور المعري الجنة كعالم مليء بالملذات الحسية والمادية، حيث الأكل والشرب والغناء والملاهي لا تتوقف.
فالمعري “صائم الدهر الذي حرّم على نفسه لذات الدنيا، ملأ جنتَه بالخمر والنساء، وتفنن في حشد صنوف من اللذائذ الحسية والشهوات المصورة”، على حد تعبير الكاتبة بنت الشاطئ التي قامت بأفضل تحقيق لنص “رسالة الغفران”.
في “رسالة الغفران”، يدخل “ابن القارح”، الشخصية الرئيسية، الجنةَ، بعد النبي، ويصفها بأنها مكان مليء بالحوريات والملائكة والطيور التي تتكلم وتغني. يستخدم المعري هذه الصورة ليعكس رؤيته الخاصة للجنة، والتي قد تكون نقداً ضمنياً للتصورات الشعبية السائدة في عصره.
في إحدى الفقرات، يصف المعري كيف يمرّ رف من إوز الجنة، ويتحول إلى جوارٍ كواعب يغنين ويرقصن، مما يثير دهشة ابن القارح: “ويمرّ رفٌّ من إوز الجنّة، فلا يلبث ابن القارح أن ينزل على تلك الروضة ويقف وقوف منتظرٍ لأمر، ومن شأن طير الجنة أن يتكلم، يقول: ما شأنكن؟، فيقلن: ألهمنا أن نسقط في هذه الروضة فنغني لمن فيها من شرب. يقول: على بركة الله القدير. فينتفضن، فيصرن جواريَ كواعب يرفلن في وشي الجنة، وبأيديهن المزاهر وأنواع ما يلتمس به الملاهي، فيعجب، وحق له أن يعجب، وليس ذلك ببديع من قدرة الله جلّت عظمته”.
وهناك التفاوض مع الباري، ففي مشهدٍ لافت، يتفاوض ابن القارح مع الله حول حجم مؤخرة الحورية التي رآها هزيلة، فيطلب من الله أن يجعلها أكثر امتلاءً، فيستجيب الله لطلبه. هذا المشهد يعكس جانبًا من الخيال الأدبي الذي يمتزج بالدين والفلسفة.
في جنة المعري، لا يوجد هدوء تقليدي، بل مجالس للغناء والرقص، ولذائذ الأكل والشرب التي تثير الغرائز وتجعل الجنة أشبه بحفلة لا تنتهي؛ تصورٌ يختلف تماماً عن الصورة النمطية التي تروج لها الأدبيات الإسلامية التقليدية
جاء في رسالة الغفران: “ويمرُّ ملَكٌ من الملائكة فيقول ابن القارح: يا عبد الله! أخبرني عن الحور العين، أليس في الكتاب الكريم: ‘إنا أنشأناهنّ إنشاءً، فجعلناهنّ أبكاراً، عُرُباً أتراباً، لأصحابِ اليَمين’؟ فيقول الملك: هنّ على ضرْبين: ضرْب خلقهُ الله في الجنّة لم يعرف غيرها، وضرْب نقلهُ الله من الدار العاجلة لمّا عمل الأعمال الصالحة. فيقول، وقد هكِرَ عجباً مما سمع: فأين اللواتي لم يكنّ في الدار الفانية؟ وكيف يتميّزن عن غيرهن؟ فيقول الملك: اقفُ أثري لترى البديءَ من قدرة الله. فيتبعه، فيجيء به إلى حدائق لا يعرف كنهَها إلا الله، فيقول الملك: خذ ثمرةً من هذا الثمر، فاكسرها فإن هذا الشجر يعرف بشجر الحور! فيأخذ سفرجلةً أو رمّانةً أو تفاحةً أو ما شاءَ الله من الثمار، فيكسرها، فتخرج منها جاريةٌ حوراء عيناء تبرق لحُسنِها حوريات الجنان. فتقول: من أنت يا عبدالله؟ فيقول: أنا فلان بن فلان. فتقول: إني أُمْنى بلقائك قبل أن يخلق الله الدنيا بأربعة آلاف سنة… فعند ذلك يسجدُ إعظاماً لله القدير ويقول: هذا كما جاء في الحديث: ‘أعدَدتُ لعبادي المؤمنين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمِعتْ!… ويخطر في نفسه، وهو ساجدٌ، أن تلك الجاريةَ على حسنها ضاويةٌ، فيرفع رأسه من السجود وقد صار من ورائها ردفٌ يضاهي كثبان عالج (رمالٌ على الطريق إلى مكّة) فيهال من قدرة الله اللطيف الخبير، ويقول: يا رازق المشرقة سناها، ومبلغ السائلة مناها، والذي فعل ما أعجز وهال، أسألك أن تقصِّر بوص هذه الحورية على ميلٍ في ميل، فيقال له: أنت مخيّرٌ في تكوين هذا الجارية كما تشاء. فيقتصر ذلك على الإرادة!”.
تأثير الكتاب على الأدب اللاحق
“رسالة الغفران” أثرت بشكل كبير على الأدب العربي والإسلامي اللاحق، حيث فتحت الباب أمام الكتاب والمفكرين لتقديم تصورات مختلفة للجنة وللحياة الآخرة. الكتاب يعتبر واحداً من أوائل الأعمال التي تجرأت على تقديم رؤية نقدية للتصورات الدينية السائدة، مما أثر على كتّاب مثل ابن عربي وابن القيم، وغيرهم ممن حاولوا تقديم تفسيرات فلسفية وأدبية للدين، وقد شاركهم هذه النظرة كثير من الأدباء والفنانين في عصرنا الحديث، ونكتفي بالإشارة لتحقيق نشرته مجلة “آخر ساعة” المصورة في عددها الصادر يوم 11 تشرين الأول/أكتوبر 1942 تحت عنوان “الجنة… كما أتخيلها”، وفيه نشرت آراء أو تصورات خمسة من الكتاب والفنانين عن الجنة وما فيها؛ هم: عباس محمود العقاد، زكي مبارك، نعيمة الأيوبي، أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، حيث أبدى كلٌّ منهم رأياً يتجاوز النظرة المادية المعهودة؛ فذكر عبد الوهاب مثلاً: “وستكون مليئة بالفتيات والنساء وسيكون جمالهن من نوع لم نعرفه، سنراهن عرايا إلا من ورقة توت، إلا إذا تدخل ‘قرني بك’…، وسيكون في إمكاننا، نحن المؤمنين، تذوق كل أنواع المتع الروحية والحسية، كما أنه ستوجد بها أكشاك للموسيقى، في كل كشك علم من أعلامها، كبيتهوفن وعبده الحامولي”.
الجنة، الحلم الذي يجمعنا
الجنة، بغموضها وجمالها الساحر، تبقى حلماً عالمياً يوحد البشرية عبر الزمان والمكان، سواءً كانت في السماء أو على الأرض، وسواءً كانت تمثل المتَع الحسية أو السلام الروحي، تظل الجنة رمزاً للأمل والخلود الذي يتوق إليه كل إنسان.
من قصة آدم إلى حديث النبي عن جنات النعيم، ومن روائع الفن الإسلامي الذي يجسد جمال الجنة إلى تأملات أبي العلاء المعري الفلسفية، ظلت الجنة مصدرَ إلهام لا ينضب للفنانين، والشعراء، والفلاسفة.
واليوم، ما هي الجنة بالنسبة لكل واحد/ة منا؟ هل هي مكان للراحة الأبدية، أم رمز للسعادة الداخلية؟