آخر الأخبار

spot_img

الجزائر تودع محمد الأخضر حمينة… أيقونة سينما الثورة وصاحب السعفة الوحيدة بين العرب والأفارقة

“صحيفة الثوري” ـ «القدس العربي»:

في يوم الجمعة 23 أيار/مايو 2025، طوى الموت صفحة مضيئة من تاريخ الفن الجزائري، برحيل المخرج محمد الأخضر حمينة، عن عمر ناهز 95 عاما، في منزله في العاصمة الجزائرية، مخلفا وراءه إرثا سينمائيا لا يُقدّر بثمن، ومسيرة فنية سُطّرت بحروف من ذهب في ذاكرة السينما العالمية.

لم تكن مصادفة عادية أن يرحل «خضور»، كما يناديه بعض أحبائه، في اليوم نفسه الذي عُرضت فيه في مهرجان كان السينمائي في فرنسا، النسخة المرمّمة لفيلمه التاريخي «وقائع سنين الجمر»، الذي نال عنه السعفة الذهبية عام 1975، في تتويج لا يزال فريدا من نوعه في تاريخ العرب والأفارقة، إذ هو أول وآخر من نال هذا الشرف. وللراحل في وجدان الجزائريين مكانة خاصة، فهو أبرز من أجاد تجسيد معاناتهم مع الاستعمار الفرنسي، من خلال روائعه «ريح الأوراس» و»وقائع سنين الجمر» وغيرها من الأفلام التي تشكل ذاكرة حية للتاريخ الجزائري الحديث، ووثائق شاهدة على الجرائم الاستعمارية التي لا تزال تطالب الجزائر بالاعتراف بها والاعتذار عنها.

وفي رسالة تعزيته، قال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إن رائعة «وقائع سنين الجمر» فتحت عيون العالم على قطعة من معاناة الشعب الجزائري، خلال فترة الاستعمار، مبرزا أن الفقيد قبل أن يكون مخرجا عالميا مبدعا ترك بصمة خالدة في تاريخ السينما العالمية، كان مجاهدا أبيا، ساهم في تحرير بلاده بما نقل من صور ومشاهد عرّفت البشرية على بطولات الثورة التحريرية المظفّرة.

مخرج الثورة… وسينمائي الدولة

ولد محمد الأخضر حمينة يوم 26 شباط/فبراير 1934 في مدينة المسيلة، وسط ظروف الاستعمار الكابس على روح الجزائريين، فتولدت عنده منذ الصغر الروح الثورية التي تفجرت لاحقا في إبداع سينمائي قلّ نظيره، انطبع بهذه الشخصية المعقدة التي عايشت كل فصول الحرمان والاضطهاد. التحق في ذروة الثورة التحريرية بالحكومة المؤقتة في تونس عام 1958، حيث بدأ مشواره الإعلامي مع صحيفة «الأخبار» التونسية، قبل أن يُوفد إلى تشيكوسلوفاكيا ليلتحق بمدرسة السينما العليا في براغ (FAMU)حيث تشرّب قواعد الفن السابع، وصقل رؤيته التي ستُنتج لاحقًا أعظم ما قُدّم في السينما التحررية.

عند الاستقلال، عاد ليكون أحد المؤسسين الحقيقيين للسينما الجزائرية، فساهم في إنشاء المكتب الوطني للصناعة السينماتوغرافية (OAA) عام 1963، وأشرف على إدارته لأكثر من عقد، قبل أن يُكلّف لاحقا برئاسة الوكالة الوطنية لتطوير السينما (ONCIC) من 1981 إلى 1984، كان حمينة بذلك مساهما في بناء مؤسسات الدولة الخاصة بالسينما وعرّابا لعدة أجيال.

أما عن أعماله، فقد شهدت سنة 1965، إخراج أول فيلم طويل له بعنوان «ريح الأوراس»، بمشاركة الفنانة كلثوم (عائشة عجوري 1916-2010)، التي أدت ببراعة دور أم يائسة تجوب السجون ومعسكرات الاعتقال التابعة للجيش الاستعماري الفرنسي، بحثا عن ابنها الذي اختطفته الشرطة الاستعمارية. وفاز فيلم «ريح الأوراس» بالجائزة الأولى لأفضل عمل في مهرجان «كان» السينمائي سنة 1967، مسجلا بذلك حضور السينما الجزائرية على الساحة الدولية.

وفي سنة 1968، أخرج فيلم «حسان طيرو»، الذي قام بدور البطولة فيه الراحل رويشد (أحمد عياد 1921-1999)، وهو ثاني فيلم روائي طويل فتح له باب الشهرة في الجزائر، ليعود سنة 1972 بفيلم «ديسمبر» الذي ندد من خلاله بفظاعة وبشاعة التعذيب الذي اعتمده الجيش الاستعماري الفرنسي في الجزائر. وفي سنة 1974، أخرج محمد لخضر حمينة فيلم «وقائع سنين الجمر»، وهو لوحة تاريخية مقسمة إلى ستة مشاهد من حركات المقاومة الأولى إلى ثورة نوفمبر/تشرين الثاني 1954. وفازت هذه الملحمة بالسعفة الذهبية في مهرجان «كان» سنة 1975. وفي 2014، أخرج الفقيد «غروب الظلال»» وهو آخر أفلامه الروائية الطويلة. كما أنتج أيضا عدة أفلام ناجحة، من بينها الفيلم الشهير «زاد» سنة 1969 للمخرج كوستا غافراس. وظهر الفقيد في بعض أعماله السينمائية، لاسيما «وقائع سنين الجمر» حيث جسد شخصية «ميلود»، الحكواتي الصادق والناطق بالحق، الذي يعاني من تجاهل الآخرين له بسبب إصابته بالجنون. لكن يبقى الإنجاز الأبرز من كل ذلك، هو «وقائع سنين الجمر»، الفيلم الذي افتك به السعفة الذهبية، كأول وآخر فيلم من العالم العربي وافريقيا ينال هذه الجائزة حتى اليوم، في تتويج اعتُبر آنذاك «نصراً ثقافياً للجزائر».

شهادات من عرفوه عن قرب

ولأن وقع الفقد كان كبيرا، خيّم الحزن على الأوساط الثقافية والفنية، إثر إعلان وفاة حمينة، الذي وصفه الشاعر عبد العالي مزغيش بأنه «صوت العالم الثالث»، و»أحد القلائل من المخرجين الذين صنعوا جسراً ثقافياً حقيقياً بين الجنوب والعالم الغربي». وقال مزغيش إن «الفقيد كان مخرجا ومنتجا ومناضلا بالفن، حمل قضايا الشعوب ومآسي الاستعمار إلى الشاشة الكبيرة، دون أن يفقد شاعرية الصورة وصدق الحكاية».

أما الصحافي المختص في الشأن الثقافي فيصل شيباني، فاستعاد لحظة انتصار حمينة باللباس الجزائري الأصيل في مهرجان كان، قائلاً: «يوم افتك كاردينال السينما الجزائرية محمد الأخضر حمينة السعفة الذهبية عام 1975، دخل تاريخ السينما من أوسع أبوابه.. وداعا خضور».

من جهته، أعرب الإعلامي إيدير دحماني عن تأثره قائلاً: «شاء القدر أن يرحل محمد الأخضر حمينة في اليوم نفسه الذي يُعرض فيه فيلمه المرمم في مهرجان كان. تكريم سماوي لفنان صنع التاريخ»، وهو ما كتبه أيضا سليم أقار المختص في الإعلام السينمائي، حيث كان مقررا حسبه أن يقام تكريم كبير للراحل بمشاركة ابنته.

ومن الرسميين، وصف وزير الثقافة زهير بللو الراحل بأنه «مخرج ومجاهد كبير، نقش اسمه بأحرف من ذهب في تاريخ السينما العالمية»، مشددا على أن الدولة «عازمة على إعادة مجد السينما الجزائرية، وفاءً لروادها». من جانبه، قال كمال سيدي سعيد، مستشار رئيس الجمهورية، إن حمينة «عملاق سينما دافع عن الجزائر بالسلاح ثم بالكاميرا، ورفع رايتها فنيا في المحافل الدولية».

وتحدث الفنان مصطفى عياد، الذي عمل مع الفقيد في «حسان طيرو»، عن «صرامة مهنية وإنسانية راقية»، بينما أكد الموسيقار صافي بوتلة أن الجزائر فقدت «أيقونة ثقافية وسينمائية قادرة على تحويل الذاكرة إلى شريط ينبض بالحياة». أما المخرج لطفي بوشوشي، فرأى أن «أعمال حمينة لا تُنسى»، مشيرا إلى «براعة الانتقال من الكوميديا إلى الدراما، وعمق الصورة والمعالجة».

من جانبه، ذكّر مدير المركز الوطني للسينما مراد شويحي بأن وفاته «تزامنت مع الذكرى الخمسين لنيله السعفة الذهبية»، في مصادفة «تُشبه القصص السينمائية»، داعيا الشباب إلى «استخلاص العبر من تجربته الملهمة».

وشهد زين الدين عرقاب، مدير مركز تطوير السينما، بأن أعمال حمينة «تشكل مرجعا لا غنى عنه للأجيال القادمة»، فيما تحدث المصور عمار رابح عن «حنكته الفائقة وإنسانيته داخل مواقع التصوير».

وفي مقبرة سيدي يحيى في العاصمة، وُري جثمان الراحل يوم السبت، في جنازة مهيبة بحضور رسمي وثقافي كثيف ومواطنين أبوا إلا أن يكونوا مع الراحل في رحلة وداعه الأخير، ليُدفن الرجل الذي عاش للسينما ومات في يوم تكريمها له.