آخر الأخبار

spot_img

امرأة تسكن بين قوسين

“صحيفة الثوري” – ثقافة وفكر:

نور السّيباني

عن المعنى الذي لا يُقال كاملًا

الكتابة لا تُفصح دائمًا، وأحيانًا تختبئ الحقيقة في علامات الترقيم أكثر مما تُقال في الكلمات

وهناك، بين قوسين، وُضِعت امرأة — لا كفكرة إضافية، بل كشيء لا يُقال بصوت عال

امرأةٌ ليست هامشًا… بل مؤجّلة، كأنها اقتباس داخلي لم يكتمل، كأنها حاشية نُسيت قبل أن تُثبَّت في المتن.

بين قوسين، لا صوت عالٍ، بل تنفّس.

لا حضور رسمي، بل وجود يُشبه التوثّب.

والقوس — على بساطته النحوية — هو أيضًا مأوى، تأجيل، احتواء، وربما قفص أنيق.

القوس كجغرافيا أنثوية

حين توضع المرأة بين قوسين، فهي لا تُروى، بل يُعلّق عليها. لا تُكتب بذاتها، بل تُرفق كإيضاح، كملحق، كصوت لا يجوز أن يُترك يتجوّل في النص بحريّته.

كأنها خطر يجب تأطيره… قبل أن يتمدّد في الحكاية.

القوس، في لغته الخفية، هو “ما لا يحتمل المتن”،

وكم من النساء كُنَّ قوسًا في السرد: الأنثى التي تمرّ سريعًا في الرواية، الحبيبة التي تظهر لتُبرّر انهيار البطل، الأمّ التي لا تُسرد، بل تُمنح فقط صفة “التضحية” وتمضي.

القوس هنا يصبح حيّزًا مقنّنًا للوجود الأنثوي:

مربّع صغير تُحبس فيه الحكاية، تُهذّب فيه الرغبة، وتُعزل فيه الهمسات التي لا يناسب أن تُقال في العلن.

لكن… أليست الجغرافيا الحقيقية هي تلك التي نوسّعها من الداخل؟ القوس قد يكون سجنًا رمزيًا، لكنّه أيضًا قابل للتمدّد، يمكن تحويله من حدود إلى حقل، من علامة تقييد إلى مساحة كتابة بديلة.

بين القوسين، ثمّة امرأة تكتب نفسها الآن — لا كتعليق، بل كنصّ متكامل. امرأة لا تُؤطّر، بل تعيد تشكيل القوس ذاته… كي يُصبح لها.

بين القوسين، تُخزن النساء اللاتي لم يُسمحن لهن أن يتوسطن الجمل، اللائي كتبن بجسدٍ متردد، بصوتٍ لا يُحبّ رفعه، وبحبرٍ يذوب كلما اقترب من المعنى.

بين القوسين، تعيش الأسئلة المكبوتة:

هل من حقي أن أكون موضوعًا لا شرحًا؟

هل أستحق أن أكون الفكرة لا ما يُلحق بها؟

لماذا حين أكتب نفسي، أُشعر أنني أُبالغ؟

ولماذا حين ألتزم الصمت، أبدو مفهومة أكثر مما يليق؟

القوس ليس مجرد علامة نحوية، بل حدّ. حدٌّ تُرسم داخله امرأة لا ليُقال عنها كل شيء، بل ليُحاصَر صوتها ضمن إطارٍ مأذون به.

امرأة تُكمل الجملة، ولا تُكملها

المرأة بين قوسين ليست ناقصة. بل مُكتملة على طريقتها، لكن اللغة — بما فُرض عليها من نسق سلطوي — تضعها دائمًا كـ “تفصيل يمكن حذفه دون أن يختل المعنى”.

لكن الحقيقة أن المعنى ينهار حين تُرفع الأقواس. ربما نحن نحتاج إلى أن نكسر القوس، لا لنخرج، بل لنتمدد فيه كما نشاء. أن نُعيد كتابته لا كاحتواء هشّ، بل كصوت. أن نقول: القوس هذا لي، وأنا لا أعيش في الهامش، بل أوسّع المتن كي يسعني. المرأة التي توضع بين قوسين، تُستدعى لتُكمل المعنى… لا لتُشكّله.

تُرفق بالخطاب، لا لتكون المتكلّمة، بل لتُجمّله، تُليّنه، تملأ الفجوة العاطفية، ثم تُعاد إلى مكانها في الهامش،

كمن أدى دوره، ثم انسحب.

إنها الجملة التي تُقال كي لا تُكمل، كي تظلّ في حالتها الاعتراضية، كأن الوجود الأنثوي لا يجوز له أن يمتدّ، أن يخرج من موقع التكميل إلى مركز القول.

كم مرّة كُنّا “شرطًا جماليًا” في السرد؟ مفردة أنيقة تُمرر في الحوارات، أو حضورًا شفيفًا يُقنع القارئ أن البطلة “موجودة”، بينما هي لا تُقرّر، لا تختار، لا تتكلّم — إلا بلغة المسموح.

المرأة التي تُكمل الجملة لا تُكملها فعلًا، بل تُمرّر كجزء من البلاغة، لا من البناء. كأنها مجاز، كأنها استعارة لجمالٍ لم يُسمح له أن يُصبح فكرة مستقلة.

لكنّ المرأة — حين تكتب نفسها — لا تكتفي بإكمال الجملة، بل تُقاطعها، تُعيد كتابتها، تتوقّف عندها، تُغيّر معناها.

هي لا تُريد أن تكون فاصلة منقوطة، ولا اقتباسًا أنيقًا على هامش صفحة فكرية. هي تريد أن تكون الكلمة التي لا تُراجع، والسطر الذي لا يُحرَّر. امرأة تُجاهر بجملتها حتى وإن ارتبك النحو، وتكسر الإيقاع لا لخلله، بل لتمنحه لحنًا جديدًا يشبهها.

خاتمة:

أن تكوني بين قوسين لا يعني أنك خفيّة.

بل أنكِ تنتظرين اللحظة التي يُفرد لكِ السطر، أن تتوقفي عن كونك جملة اعتراضية، وتصيرين الجملة.

في عالم يتقن صياغة النساء على هيئة ملاحظات، ثمة من تعلّمن أن يكنّ النص ذاته، حتى وإن كُتب عنهن كأنهن تنويعات على فكرة لم تُفهم بعد.