صحيفة الثوري- تحليل:
كشف المركز الأمريكي للعدالة (ACJ) في دراسة تحليلية موسعة عن التحول الجوهري الذي شهده الحصار العسكري المفروض على مدينة تعز وأجزاء واسعة من ريفها منذ عشر سنوات، مبيناً أنه لم يعد مجرد وسيلة ضغط عسكرية عابرة، بل أصبح استراتيجية سياسية ممنهجة تهدف إلى تفكيك المحافظة وتعطيل المشروع الفيدرالي وإعادة تشكيل الخارطة السياسية والجغرافية لليمن.
الدراسة التي حملت عنوان: “المعنى السياسي لاستمرار حصار تعز: من أدوات العقاب إلى هندسة الانقسام”، أعدها الصحفي والباحث وسام محمد وراجعها الدكتور مصطفى الجبزي، وتمثل امتداداً لتقرير سابق أصدره المركز في يوليو/ تموز 2024 بعنوان: “حصار تعز: مأساة إنسانية”، وثق آنذاك أبرز الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان، وأبرز ما ترتب عن الحصار من تداعيات مأساوية طالت مختلف جوانب الحياة اليومية في المدينة ومحيطها.
وأوضحت الدراسة الجديدة أن الحصار المفروض منذ منتصف العام 2015 جاء في بداياته كرد فعل انتقامي مباشر من قبل جماعة الحوثي وحلفائها، بعد الهزائم التي منيت بها في وسط مدينة تعز على يد المقاومة الشعبية، والتي كبحت تمددها ومنعتها من فرض سيطرتها الكاملة على البلاد. غير أن هذا الحصار المؤقت تطور تدريجياً ليصبح أداة ثابتة في سياسة التحكم والسيطرة الحوثية، وتحويله إلى استراتيجية بعيدة المدى تهدف إلى إخضاع تعز وشل دورها الحيوي على المستوى الوطني.
وتشير الدراسة إلى أن معظم التقارير والدراسات المحلية والدولية السابقة ركزت على الجانب الإنساني البالغ القسوة للحصار، من نقص الغذاء والدواء وانقطاع الخدمات الأساسية، فيما تغافلت عن البعد السياسي العميق الذي يشكل المحرك الرئيسي لاستمراره. ومن خلال تتبع السياق التاريخي والسياسي للأحداث، توصلت الدراسة إلى أن الحصار بات جزءاً من هندسة جديدة لموازين القوى داخل اليمن، تقوم على تجزئة المحافظات وإضعاف المراكز المؤثرة فيها، خصوصاً تعز التي كانت تاريخياً مركزاً مدنياً وصناعياً وتنويرياً مؤثراً.
ووثقت الدراسة تنوع الآليات التي اعتمدها الحوثيون في فرض الحصار، بدءاً من الحرمان المنهجي من أساسيات الحياة عبر منع دخول الأدوية والمواد الغذائية والمياه وتعطيل تصريف النفايات، مروراً بـ العزل التام عن العالم الخارجي من خلال قطع وسائل الاتصال، ووصولاً إلى استخدام أدوات العنف المباشر مثل القصف المدفعي، القناصة، وزراعة الألغام الأرضية في الطرق المؤدية للمدينة، فضلاً عن نشر نقاط التفتيش والمعتقلات سيئة السمعة لترهيب السكان والحد من أي حراك معارض لسيطرة الجماعة.
وأكدت الدراسة أن هذه الممارسات أدت إلى تحجيم دور تعز السياسي والاقتصادي والثقافي، وتعطيل دورها التاريخي كمركز للصناعات والتجارة والحراك المدني التنويري، في الوقت الذي سمح فيه هذا الواقع بانتعاش النزعات الطائفية والمناطقية في البلاد، وهو ما أسهم بشكل مباشر في إضعاف المشروع الجمهوري وترسيخ حالة الانقسام الداخلي.
وخلصت الدراسة إلى أن الحصار المفروض على تعز ليس حالة معزولة، وإنما يأتي ضمن استراتيجية أوسع للحوثيين لترسيخ الانقسامات في اليمن وضرب مقومات الدولة الوطنية الحديثة، موصية مختلف الفاعلين المحليين والدوليين بضرورة النظر إلى الحصار كقضية سياسية وإنسانية متشابكة، تتطلب معالجة شاملة تتجاوز الإغاثة المؤقتة نحو برنامج متكامل ينهي الواقع القائم، ويعيد للمدينة دورها الطبيعي، وينقذ مئات الآلاف من المدنيين العزل من مأساة إنسانية مستمرة منذ عقد من الزمن.