آخر الأخبار

spot_img

كتاب “الجمهور” بوصفه دليلًا حديثًا للنضال

“صحيفة الثوري” – ثقافة وفكر:

وسام محمد

قرأت كتاب “الجمهور”، تأليف: الأمريكي مايكل هارت (فيلسوف وسياسي ماركسي)، والإيطالي أنطونيو نيغري (فيلسوف وسياسي وسوسيولوجي ماركسي)، لأول مرة خلال العام 2017، ويمكنني القول إنه أهم كتاب قرأته في حياتي، بالنظر الى الأثر العميق الذي تركه على نفسيتي وعلى طريقة تفكيري.

أعاد الكتاب إنعاش الآمال شبه الذاوية، وقدم وعودا بأن المستقبل هو للحرية والديمقراطية. استعرض تجارب يمكن استلهامها، وأعطى تلميحات ذكية عن الأدوات التي من الممكن الاستعانة بها في عملية تغيير الواقع بحسب المهام التي يطرحها؛ “فكل شيء سلاح إذا ما أتقن استخدامه”.

في زمن سحقت فيه كل الآمال، كما حدث للثورات العربية، حيث عادت الانقلابات العسكرية واستمرت الجرائم الوحشية واندلعت الحروب الأهلية، أي إشارة عابرة تؤكد أن ما قمنا به لم يكن خطأ، لابد أن يكون لها أثر كبير في النفس. وما وجدته في كتاب “الجمهور” يتعدى ذلك، فهو يقدم تحليلا عن عمق الأزمة التي يعيشها عالمنا اليوم، ويؤكد ان الثورات ستظل تندلع، وأن “الديمقراطية حتى لو بدت نائية هي ضرورية للعالم، وهي الجواب الوحيد على الأسئلة المقلقة في أيامنا، كما أنها المخرج الوحيد من حالة النزاع والحرب الدائمة”.

خلق ماركس وعي العمال بأنفسهم وبما يستطيعون فعله لو اتحدوا ونظموا أنفسهم وكيف يمكنهم تغيير مستقبل البشرية. وهو الأمر الذي نقل الأفكار الاشتراكية والشيوعية من المثالية إلى المادية، من الخيال إلى الواقع الملموس، الأمر الذي كان له مفعول السحر؛ حيث أصبح هذا الفكر منبع ثورات وهزات وتغييرات حادة شهدها القرن العشرين.

كتاب “الجمهور” هدم كثيرًا من المسلمات الفكرية، بما فيها أفكار تعود لماركس ذاته وللتجارب الثورية التي استندت على أفكاره، كديكتاتورية البروليتاريا. ثم شيد صرحًا نظريًا لكن ايضًا بالاستناد على الأساس النظري الذي وضعه ماركس، وبالاستناد على دروس التجارب الثورية من بعده، ثم بالاستناد على الواقع القائم اليوم بعد تحليله بصورة شاملة. مثلًا في جزئية العمل، يوضح الكتاب أنه أصبح اليوم يتجه نحو هيمنة العمل اللامادي، ما يعني أن العمال أصبحوا قطاعًا واسعًا داخل المجتمع. ولم يعد الأمر يقتصر على عمال المصانع والفلاحين؛ فقد أصبح لدينا الجمهور وهو السواد الأعظم، وهو يتعرض لاستغلال بشع، ما يعني أن هذا الجمهور هو المرشح لأن يكون حاملا للثورة ليس بالطريقة التقليدية ولكن من خلال تنظيمات شبكية ذكية أصبحت قائمة وتتسع كانعكاس لبنية العمل التي أصبحت تعتمد على التطور التقني والتكنولوجي وتعمل على هيئة شبكات.

فالجمهور وفقا لما يراه هارت ونيغري، “عالم مقطوع الرأس”. وهو “من الوجهة الداخلية ذات اجتماعية متعددة لا يقوم تركيبه وعمله على هوية أو وحدة (أو على حياد) وإنما على ما هو مشترك. أيضا الجمهور حشد أو فيلق يتألف من عناصر لا حصر لها تظل مختلفة واحدها عن الآخر، ومع ذلك هي متواصلة، متعاونة وتعمل معا”. ووفقًا لتعبير الكتاب فـ”هذا هو الشيطان حقيقة”. أي المخلوق المرعب والذي لا يمكن احتواؤه أو هزيمته.

هكذا يفتح “الجمهور” أفاق واسعة لتجاوز الواقع القائم من منظور ديمقراطي.

لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فهناك أيضا كثير من الأشياء اللطيفة والمفرحة في الكتاب؛ مثلًا لغة في غاية العذوبة ليست كلغة كثير من الكتب الفلسفية التي غالبا ما تتسم بالجمود.

وبالرغم من أن تأليف الكتاب تم بطريقة مشتركة، لكن عند قراءته يبدو كأنه خرج من دماغ واحد، وهذا يقدم تأكيدًا جديدًا على أن العمل التشاركي ممكن في كل المجالات، بل يقدم ميزة التفكير بصوت مسموع واختبار الأفكار قبل انتقالها للجمهور. وهو شيء يجب أن نفطن إليه في البلدان العربية مع اختلاف الدواعي. نحن نحتاج للعمل التشاركي في مجال الكتابة النظرية او حتى على مستوى الأعمال البحثية البسيطة والمواد الصحفية، من أجل أن تتكامل الخبرات وتتلاقح وحتى يكون المخرج النهائي مصقولا وواعيًا بذاته. صحيح أن عدم وجود تقاليد راسخة في هذا المجال يجعل الأمر صعبا، لكن تشكيل قناعة والبدء بشكل جاد في بناء نماذج، هو الخطوة الأولى نحو بناء مثل هذه التقاليد وتعميمها. وهو ممكن اليوم أكثر في ظل التطور التكنولوجي، حيث يمكن لشخصين أو ثلاثة أن يتفقوا في العمل على موضوع بحث معين أو الاشتغال على تقرير صحفي معمق ووضع تصور ومشاركته عبر حسابات جوجل حينها يمكن لأي شخص أن يفتح المستند ويضيف مساهمته وعندما يكتمل العمل يتم التعهد به الى محرر.

ما استوقفني أيضا هو فارق السن بين المؤلِّفَين. أنطونيو نيغري، من مواليد 1933. بينما مايكل هارت، من مواليد 1960؛ أي أن الفارق في السن لا يشكل عائقا عند العمل المشترك في سبيل فهم الواقع ومحاولة تغييره. لكن هذا الأمر لا يزال إشكالية في واقعنا العربي، فهناك تنافر بين الأجيال أو تبعية عمياء أو حروب مضمرة بينها لكنها دامية.

شارك الفيلسوفان قبل ذلك في تأليف كتاب “الإمبراطورية” الذي وصف من قبل البعض – بحسب مقدمة مترجم كتاب “الجمهور”- بأنه البيان الشيوعي للقرن الحادي والعشرين.

أما كتاب “الجمهور” باعتقادي فهو الجزء الثاني من البيان الشيوعي. كونه يقدم دليلا تفصيليا للنضال. منذ وفاة ماركس لم يكتب كتاب بهذه القيمة على حد علمي. بالطبع لم أقرأ ماركس بما يكفي وعلى النحو الذي يجعلني أقول بأنني قد فهمت كل أفكاره، ولم أقرأ كل ما كتب بعد ماركس. لكن تقييمي لكتاب “الجمهور” وبكونه أهم كتاب سياسي وفلسفي كتب بعد ماركس وظل متصلا به نقدًا وتأكيدًا_ سيظل مقتصرًا على كل الكتب التي قرأتها حتى الآن، حتى لا يبدو تقييمي شاطحًا.

عدت لقراءة الكتاب أكثر من مرة، ولا زلت أشعر أنني بحاجة لإعادة قراءته مرات أخرى. أما عدد المجلدات الخاصة بالكتاب والمرتبطة به في قرص الحاسوب المحمول الخاص بي، فقد وصلت لنحو عشرين مجلدًا؛ مثلا مجلد المحبة في الجمهور. الديمقراطية في الجمهور. الإمبراطورية في الجمهور. ذكاء السرب في الجمهور. حرب الغوريلا في الجمهور. استراتيجية العصيان المضاد في الجمهور. الحرب بالوكالة وحرب المرتزقة في الجمهور. اقتباسات من الجمهور…الخ. يبدو هذا حماسًا غريبًا وربما مبالغًا فيه، ولكن حب الكتب التي تغير تفكيرنا وتفتح أمامنا أبواب الأمل، تمامًا مثل حب البشر، ليس صديق الاعتدال!