آخر الأخبار

spot_img

لماذا قرر ترامب وقف العمليات في اليمن؟

صحيفة الثوري – تقارير

شهدت اليمن خلال الأيام الماضية سلسلة من التطورات الدراماتيكية التي من شأنها أن تعيد تشكيل الديناميكيات المحلية والإقليمية للصراع بشكل عميق: أولًا، نجح الحوثيون في اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية عبر هجوم صاروخي باليستي استهدف مطار بن غوريون؛ ثانيًا، ردّت إسرائيل بضربة أكثر تدميرًا استهدفت البنية التحتية الاقتصادية في اليمن، مما أدى إلى تعطيل ميناء الحديدة ومطار صنعاء بشكل كامل؛ وأخيرًا، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقف الغارات الجوية الأمريكية في اليمن، بعد موافقة الحوثيين على وقف هجماتهم ضد البحرية الأمريكية والسفن التجارية في البحر الأحمر.

يشير هذا التحول السريع في الأحداث إلى أن واشنطن اختارت التراجع عن دورها كضامن جيوسياسي، في لحظة بلغت فيها المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية ذروتها على الساحة اليمنية. يُعد تتبع السياق الاستراتيجي الإقليمي منذ مارس، نقطة انطلاق مفيدة لفهم دوافع القرار الأمريكي لخفض التصعيد في اليمن، وبالتالي، استشراف المسار المستقبلي للصراع.

الأهداف الأمريكية الأربعة

لم يُخفِ ترامب تفضيله لإبرام الصفقات على خوض الحروب، لكن هذا لم يمنعه من اتخاذ خطوات محفوفة بالمخاطر، أو إظهار القوة عند مواجهة اختبار استراتيجي. قد جاء هذا الاختبار في 11 مارس، حين أعلن الحوثيون استئناف عملياتهم في البحر الأحمر، ردًا على الحصار الإسرائيلي للمساعدات الإنسانية إلى غزة، حسب تصريحاتهم.

سرعان ما شن ترامب حملة عسكرية جوية ضد الحوثيين أوقعت خسائر كبيرة في صفوفهم، في محاولة لإظهار نهج غير متوقع، لكن فاعلية هذا التحرك الأمريكي العسكري كانت محدودة بسبب غياب تصور واضح للنهاية المرجوة من التدخل في اليمن.

منذ البداية، لم تُبدِ إدارة ترامب اهتمامًا يُذكر بالانخراط الدبلوماسي، بل أعلنت صراحة أن تدخلها لا علاقة له بالحرب الأهلية اليمنية أو بدعم الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا.

مع ذلك، كثّفت الولايات المتحدة عملياتها العسكرية، معتبرة الصراع في اليمن فرصة استراتيجية لتحقيق أربعة أهداف رئيسية في الشرق الأوسط:

1. إظهار القوة وتأمين الملاحة البحرية

سعى ترامب لتقديم نفسه كزعيم قوي قادر على استعادة حرية الملاحة، وهو ما اتهم إدارة بايدن بالفشل فيه، وفي بيانه حول إطلاق العمليات العسكرية في اليمن، وصف ترامب موقف بايدن تجاه الحوثيين بأنه “ضعيف بشكل بائس”، معتبرًا أنه شجع الجماعة على التمادي.

2. إعادة بناء الثقة مع حلفاء الخليج

من خلال الرد الفوري على التهديدات الأمنية القادمة من اليمن، هدف ترامب إلى استعادة ثقة دول المنطقة بالحماية الأمريكية، وهي الثقة التي تآكلت بعد هجمات 2019، على منشآت الطاقة في السعودية دون رد أمريكي حازم. ترافق ذلك مع تجديد التعاون الدفاعي والتجاري والدبلوماسي مع السعودية والإمارات.

وفقًا لمصادر دبلوماسية إقليمية، جرت مناقشات جدّية حول إمكانية عمل عسكري في اليمن للحد من النفوذ الإيراني، على غرار نموذج إسقاط نظام الأسد في سوريا. انعكست هذه المداولات في التغطية الإعلامية السعودية والإماراتية، وكذلك في تعليقات حلفائهما من اليمنيين.

3. دعم إسرائيل واحتواء الصراع في آن واحد

أكد ترامب التزامه بأمن إسرائيل، لكنه سعى في الوقت نفسه لمنع توسع رقعة الصراع. أمام التدخل الأمريكي المباشر في اليمن، فرض ترامب خطوطًا حمراء على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، من بينها حظر شن عمليات على اليمن، أو ضربات مباشرة ضد إيران.

4. استخدام الضغط لإحياء المفاوضات مع إيران

أراد ترامب إعادة تنشيط قنوات التواصل مع طهران من خلال توسيع حملة “الضغط الأقصى” لتشمل الحوثيين، بصفتهم أقوى وكلاء إيران الإقليميين المتبقين. دفعت هذه الضغوط إيران إلى كبح تحركات الحوثيين وفتح قنوات مع واشنطن، توّجت بإطلاق مفاوضات أمريكية-إيرانية بمسقط في 12 أبريل.

الملف اليمني في مفاوضات طهران وواشنطن

تركزت الجولة الأولى من المفاوضات بين واشنطن وطهران على تحديد أجندة الحوار، حيث هيمنت ثلاثة ملفات حساسة: البرنامج النووي الإيراني، برنامج الصواريخ، ودعم إيران لوكلائها الإقليميين. رفضت طهران مناقشة ملف الصواريخ باعتباره مسألة سيادة وطنية، لكنها بحسب تقارير عرضت بالمقابل فرص استثمار بقيمة تريليون دولار.

وقد استبقت طهران جولة المفاوضات باطلاق رسائل ايجابية تفيد باستعدادها التفاوض على الشأن الاقليمي . في 7ابريل، تحدث مسؤولون عراقيون عن استعداد الميليشيات الموالية لإيران لنزع سلاحها. بعدها، في 9 أبريل، أعلن مسؤول بارز في حزب الله الانفتاح على حوار لبناني داخلي حول سلاح الحزب. في السياق ذاته، صرح القيادي الحوثي محمد البخيتي، في 11 أبريل، قائلًا: “لا نعتبر أنفسنا في حالة حرب مع الشعب الأمريكي، وإذا توقفت الولايات المتحدة عن استهداف اليمن، فسنتوقف بدورنا عن العمليات العسكرية ضدها”.

بالتوازي مع ما سبق، نقلت صحيفة التلغراف عن مسؤول إيراني رفيع، أن طهران قررت سحب عناصرها العسكرية من اليمن ووقف الدعم للحوثيين. مع ذلك، لم تقنع هذه الإشارات التصالحية واشنطن، ووفقًا لمصدرين دبلوماسيين — أحدهما عربي والآخر غربي — رفضت الولايات المتحدة إدراج القضايا الإقليمية، وخصوصًا الملف اليمني، في أجندة المفاوضات. من المرجّح أن الولايات المتحدة قيّمت الوضع الإقليمي لإيران على أنه هشّ، على إثر النكسات التي واجهتها في كل من لبنان وسوريا، واعتبرت أن المقترحات الإيرانية ليست تنازلات حقيقية، بل محاولة للحفاظ على ما تبقى من نفوذها. نتيجة لذلك، كثّفت واشنطن ضغوطها العسكرية والاقتصادية على الحوثيين، في الوقت نفسه الذي سمحت فيه باستمرار المفاوضات مع طهران.

بدورهم، ردّ الحوثيون بالتصعيد، ففي 13 أبريل،بدأوا بشن هجمات منتظمة أكثر ضد الأصول البحرية الأمريكية، بالإضافة إلى هجمات ضد إسرائيل. مع ذلك، بدا أن الطرفين ملتزمان بإبقاء الصراع ضمن حدود يمكن السيطرة عليها. فقد امتنع الحوثيون إلى حد كبير عن استهداف السفن التجارية واستخدام بعض الأساليب التصعيدية، مثل هجمات الإغراق، في حين مارست واشنطن ضغوطًا على إسرائيل لكبح أي رد عسكري محتمل ضد اليمن على خلفية محاولات استهدافها من قبل الحوثيين.

جرى هذا الاشتباك المنضبط بالتوازي مع تقدم المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران، والتي هدفت إلى التوصل إلى إطار لاتفاق نووي محتمل.

أدوات مختلفة لهدف واحد

في نهاية المطاف، قادت الأهداف الأربعة التي دفعت ترامب إلى التصعيد في اليمن، إلى مراجعة فعالية الحملة العسكرية وجدواها. مع تقدم مفاوضات واشنطن وطهران، تبنّت دول عربية استراتيجية تقارب سياسي مع إيران بدلاً من محاولة تحجيمها جيوسياسيًا. تجلّى هذا التحول بشكل واضح في التنسيق الدبلوماسي المتكرر بين طهران والقاهرة عقب كل جولة من جولات التفاوض، أما نقطة التحول الأبرز، فتمثّلت في زيارة وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان إلى طهران، حاملاً رسالة من والده الملك سلمان، شملت ملفات فلسطين واليمن والأمن الثنائي والحوار مع واشنطن. حثّت الرسالة إيران على استخدام نفوذها لكبح جماح الحوثيين وخفض التوترات في البحر الأحمر، باعتبار هذه الخطوات مساهمة في تسريع وتيرة الحوار الإيراني-الأمريكي.

خلال الفترة ذاتها، بدا أن الخطط المتداولة لشن هجوم بري بدعم أمريكي في اليمن قد فقدت الزخم، في حين حولت الرياض تركيزها إلى استثمار الزيارة المرتقبة للرئيس ترامب، لإحياء الزخم السياسي نحو جهود وساطة متجددة.

أواخر أبريل، التقى السفير السعودي لدى اليمن، محمد آل جابر، مع لجنة التشاور والمصالحة التابعة لمجلس القيادة الرئاسي، وقيادات من الأحزاب السياسية، لإجراء محادثات تدعم “جهود السلام، والمصالحة الوطنية الشاملة، واستقرار اليمن”.

مطلع مايو الجاري، التقى المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى اليمن، هانس غروندبرغ، بوزير الخارجية اليمني شايع الزنداني، والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جاسم البديوي، والسفير محمد آل جابر، إلى جانب عدد من الدبلوماسيين، بينهم سفراء الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وذلك في العاصمة السعودية الرياض.

مع تقدم المحادثات بين إيران والولايات المتحدة، وانتقالها من الجوانب السياسية إلى التفاصيل التقنية، أطلقت إسرائيل “حربًا في الظل” للالتفاف على القيود الأمريكية المفروضة على العمل العسكري، وتسريع الجهود الرامية إلى إفشال المفاوضات، حيث وقع انفجار في ميناء بندر عباس الإيراني أواخر أبريل، نُسب إلى الإهمال أو إلى هجوم إسرائيلي، وأسفر عن مقتل أكثر من 40 شخصًا وإصابة أكثر من ألف آخرين.

من جانبهم، استهدف الحوثيون مطار بن غوريون، أواخر أبريل، بصاروخ نوعي، وأعلنوا فرض منطقة حظر جوي فوق إسرائيل، وهي خطوة يُحتمل أن تكون قد دفعت بها إيران ردًا على هجوم بندر عباس، في محاولة لإعادة ترسيخ سياسة الردع.

الضغط الداخلي على واشنطن يغيّر المعادلة

من العوامل الحاسمة التي دفعت إدارة ترامب لإعادة النظر في تدخلها، تصاعد الانتقادات الداخلية للحملة العسكرية. منتصف أبريل، وصفت أصوات ناقدة تلك الحملة بأنها مكلفة وتفتقر لهدف واضح، واعتبرتها مخاطرة قد تجر الولايات المتحدة إلى حرب أخرى لا نهاية لها. في ظل ذلك، أقال ترامب مستشاره للأمن القومي مايكل والتز قبل أيام، وهو المعروف بتشدده تجاه إيران. أعقب ذلك تحذير علني صارم من وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث، لطهران بدفع ثمن دعمها للحوثيين.

بينت كل تلك التطورات استعداد واشنطن لخفض التصعيد، وتولى مبعوث ترمب الخاص ستيف ويتكوف، قيادة المفاوضات مع طهران عبر وساطة عمانية، أسفرت عن هدنة مع الحوثيين. لكن الهيكل العام للاتفاق كان مبادرة أمريكية-إيرانية، حيث سعت إيران لحماية الحوثيين من ضربات أمريكية مؤلمة، وإخراج واشنطن من ساحة المواجهة في صراعها مع إسرائيل.

تطلعات ومخاطر مستقبلية

رغم جهود التهدئة الدولية، لا تزال حدود هذه الصفقة غير واضحة، فقد أعلن الحوثيون أن عملياتهم ضد إسرائيل ستستمر رغم وقف الهجمات على الأصول البحرية للولايات المتحدة. من المرجّح أن تواجه إيران صعوبة في كبح جماح الحوثيين، نظراً لالتزامها العلني بالتضامن مع الفلسطينيين في ظل الحملة العسكرية الإسرائيلية المتجددة في غزة.

بالمقابل، يبدو أن إسرائيل توصّلت إلى قناعة بأن الضربات الموجعة في اليمن لن تكون كافية لردع الحوثيين، ما قد يمنحها مبررًا لاتخاذ إجراءات مباشرة ضد إيران مستقبلاً.

مع ذلك، قد يشكل وقف إطلاق النار بين الحوثيين والولايات المتحدة ضربة لخطط إسرائيل، إذ لم يتم إبلاغ نتنياهو به مسبقًا، ولم يتضمن إعلان ترمب أي إشارة إلى إسرائيل، مما يترك احتمال أن يترك ترامب إسرائيل لتواجه التهديدات المستقبلية من الحوثيين وإيران بمفردها. أفادت تقارير بأن نتنياهو تفاجأ أيضًا بقرار ترامب عدم إدراج إسرائيل ضمن جدول زيارته الإقليمية المقبلة.

من جانبه، يبدو أن ترامب قد حقق سلسلة من المكاسب التكتيكية، فقد تعزز مسار التفاوض بين الولايات المتحدة وإيران قبيل الجولة الرابعة من المحادثات في مسقط. كما أن وقف إطلاق النار في اليمن يخلق ضغطًا على إسرائيل، التي كانت تحاول عرقلة المفاوضات النووية وترفض وقف حربها في غزة.

يهيّئ خفض التصعيد في اليمن أيضًا أجواء أكثر إيجابية لزيارة ترامب إلى الرياض. على الصعيد الداخلي، صوّر ترامب وقف إطلاق النار على أنه انتصار، وقدم نفسه كرجل أجبر الحوثيين على الاستسلام.

مع ذلك، فإن هذه الصفقة “الترامبية” عرضة للتخريب، خصوصًا من قبل إسرائيل والحوثيين وإيران. بينما لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه الأطراف ستلتزم بضبط النفس، يبدو في الوقت الحالي أن ترامب غير منشغل كثيرًا بهذه التساؤلات، بل يبدو أكثر حرصًا على استثمار الزخم الحالي لتحقيق مكاسب فورية خلال زيارته المرتقبة إلى الشرق الأوسط.

المصدر: مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية