صحيفة الثوري – تكنولوجيا
بعد عقود من البحث الدؤوب عن إشارات راديو أو أي دليل يشير إلى وجود حياة خارج كوكب الأرض، ورغم تحديد علماء الفلك لبعض المواقع الواعدة والكواكب الخارجية المحتملة، لا يزال الدليل الملموس على وجود حياة فضائية بعيد المنال، باستثناء بعض الإشارات الغامضة.
لكن هذا الواقع يطرح سؤالًا معاكسًا ومثيرًا للتفكير: ماذا لو كانت هناك حياة أخرى؟ وماذا لو كانت هذه الكائنات تنظر إلينا وتحاول العثور علينا؟ وهل ستكون قادرة على اكتشاف وجود حياة على كوكبنا؟ هذا التساؤل بات يشغل بال العلماء بشكل متزايد في السنوات الأخيرة، خاصة مع استمرارنا في بث “بصمتنا” دون قصد إلى أعماق المجرة.
وتعلق جاكلين فارتي، عالمة الفيزياء الفلكية في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي، قائلة: “إذا تخيلنا أنفسنا في الفضاء كمرآة، فما الذي سيرونه منا؟ نحن نراقب، وهذا يعني أن عوالم أخرى ربما تراقبنا أيضًا.”
وحتى الآن، تمكن العلماء من اكتشاف أكثر من 5500 كوكبًا خارجيًا تدور حول نجوم أخرى في مجرتنا درب التبانة. ومع ذلك، لا تزال هذه الملاحظات في مراحلها الأولية، حيث يُقدر وجود تريليونات من العوالم المنتشرة في جميع أنحاء مجرتنا الشاسعة.
وقد بدأنا في البحث عن بعض هذه العوالم، سواء من خلال بصمات كيميائية في أغلفتها الجوية قد تشير إلى نشاط بيولوجي، أو حتى بصمات تقنية قد تُصدرها أشكال حياة ذكية، وهي إشارات راديوية أُرسلت إلينا، إما عَمْداً أو عن طريق الخطأ.
وتبث الأرض حضورها في المجرة منذ قرن تقريباً. ويقول هوارد إيزاكسون، عالم الفلك في جامعة كاليفورنيا، في بيركلي بالولايات المتحدة الأمريكية، إن الفترة الأبرز كانت من عام 1900 وحتى الحرب العالمية الثانية، عندما كانت إشاراتنا الراديوية أقوى.
ويضيف: “كان لا بد من أن تكون أقوى لأن أجهزة الراديو التي يستمع إليها الناس لم تكن مزودة بأجهزة استقبال حساسة”.
ونواصل بث إشارات الراديو اليوم، من البرامج التلفزيونية إلى الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، ولكن بطريقة أقل قابلية للرصد.
ويقول توماس بيتي، عالم الفلك في جامعة ويسكونسن بالولايات المتحدة: “لا ترغب محطات الراديو في البث إلى الفضاء، بل ترغب في البث إلى الأرض”. أما وسائل الاتصال الحديثة الأخرى، مثل إشارات الهاتف المحمول، فمن غير المرجح أن تكون قابلة للرصد .
لكن ليست كل إشاراتنا بهذه الضعف. ففي جميع أنحاء النظام الشمسي، لدينا العديد من المركبات الفضائية التي تستكشف مواقع مختلفة، مثل المريخ والمشتري، وحتى الأطراف الخارجية للشمس. وأبعد هذه المركبات هي مركبة فوياجر 1 التابعة لناسا والتي تبعد 24 مليار كيلومتر عن الأرض، مما يتطلب شبكة قوية من الأطباق الفضائية على الأرض تُعرف باسم شبكة الفضاء العميق للتواصل معها.
وفي أبريل/ نيسان، قام إيزاكسون بحساب بعض هذه الإشارات، التي تصل قوتها إلى 20 كيلوواط، والتي قد تصل إلى نجوم أخرى أثناء مرورها بالمركبة الفضائية البعيدة ومواصلة رحلتها إلى الفضاء، ووجد أن 4 نجوم قريبة وأي كواكب مصاحبة لها قد تلقت الإشارات بالفعل، ومن المرجح أن يسمع أكثر من 1000 نجم هذه الإشارات بحلول عام 2300. ويقول إيزاكسون: “ستظهر الإشارة بالتأكيد على أنها اصطناعية”. وبحلول عام 2031، سيكون لدى أقرب النجوم وقت كافٍ لاستقبال الإشارات وبث رسالتها الخاصة، وهو ما قد يكون هدفاً مثيراً للاهتمام في الدراسات المستقبلية.
لكن ماذا لو كان علماء الفلك الفضائيون أكثر تفانياً؟ قد يحاولون رصد كوكبنا قبل استقبال أي إشارات كهذه، إذا تمكنوا من رؤية كوكبنا يمر أمام شمسنا، وهو ما يُعرف بالعبور، فسيتمكنون من رؤية ضوء الشمس يمر عبر غلافنا الجوي وتمييز غازاته المختلفة.
وفي عام 2021 ، وجدت فارتي ما يقرب من ألْفَيْ نجمٍ ضمن نطاق 300 سنة ضوئية من الأرض، يُمكنها رؤية مثل هذا العبور. وتقول: “إنها مجموعة كبيرة من العوالم”.
ويقول بول ريمر، وهو عالم كيمياء فلكية في جامعة كامبريدج في المملكة المتحدة، إن أفضل مؤشر على وجود الحياة على الأرض من مثل هذه الملاحظات قد يكون الأوكسجين والنيتروجين وبخار الماء، وهو ما “سيكون مؤشراً على وجود محيط سائل مستقر”.
وقد يُقدّم ثاني أكسيد النيتروجين أيضاً بعض الأدلة على أن كوكبنا كان مأهولاً بكائنات حية ذكية. ويقول هيكتور سوكاس-نافارو، عالم الفيزياء الفلكية في معهد الفيزياء الفلكية في جزر الكناري بإسبانيا، إن هذا الغاز “هو في الأساس ناتج ثانوي للاحتراق، لذا قد يستنتجون أننا نحرق أشياءً هنا”.
وقد تكون مركبات الكلوروفلوروكربون من الهباء الجوي والمبردات ومصادر أخرى دليلاً قاطعاً على وجود نشاط صناعي على كوكبنا. وتقول ماسي هيوستن، عالمة الفلك في جامعة كاليفورنيا، في بيركلي بالولايات المتحدة: “نحن على يقينٍ تامٍ من أنه لا يمكن إنتاجها إلا بالتكنولوجيا”.
وقد لا تكون ملوثات الغلاف الجوي أو الإشارات الراديوية من أكثر البصمات التقنية كشفاً من الأرض، بل أضواء مدينتنا.
ومن المرجح أن الأرض في شكلها الحالي ليست متحضرة بما يكفي لتُكتشف بهذه الطريقة، على الأقل ضمن معايير تلسكوباتنا حيث تغطي المدن أقل من 1 في المئة من سطح الأرض . إنها بعيدة كل البعد عن أن تكون مدينة عالمية – مدينة على مستوى الكوكب، تشبه عالم كوروسكانت الخيالي في أفلام حرب النجوم. ومع ذلك، إذا استمر التطور بوتيرته الحالية، فقد يتضخم التحضر بحلول عام 2150 بمقدار 10 أضعاف مستوياته الحالية، وقد نصبح حينها بمثابة منارة للتلسكوبات الحديثة، كما يقول بيتي.
لكن الحضارات الفضائية، التي تمتلك تلسكوبات أكثر تطوراً، قد تكون قادرة على رصدنا بالفعل. ويقول: “من المحتمل جداً أن يكون هناك علماء فلك فضائيون بنَوْا تلسكوباً فضائياً قطره 100 متر، وهو قادر على رؤيتنا الآن”.
وحتى لو امتلك علماء الفلك الفضائيون تلسكوباً أصغر لا يرصد سوى النقطة الخافتة من كوكبنا، فقد يظلون قادرين على استنتاج أنه مأهول، فبمعرفة مَيَلان الأرض ودورانها، يمكن استخدام الضوء المنبعث من كوكبنا لرسم خريطة أولية لسطحنا، تُظهر اليابسة والمحيطات وحتى السواحل، وفقاً لجوناثان جيانغ، عالم الفيزياء الفلكية من مختبر الدفع النفاث التابع لناسا في الولايات المتحدة. ويقول جيانغ، الذي استخدم مركبة فضائية في نظامنا الشمسي عام 2018 لعرض هذه التقنية على الأرض: “ما دام بإمكانك رؤية نقطة ضوء، فإذن، تستطيع تحليلها”.
وكل هذا يثير التساؤل عما إذا كنا نريد حقاً أن نكون بارزين إلى هذا الحد. ويقول بيتي: “في الأفلام، نتعرض دائماً للغزو”.
وفي الواقع، العلماء أكثر حرصاً على جعل وجودنا معروفاً، حتى أنهم يرسلون أحياناً رسائل هادفة إلى الكون – مثل إشارة الراديو الشهيرة عالية الطاقة التي تحتوي على صورة بسيطة عن الإنسانية، وقد أرسلها تلسكوب أريسيبو الراديوي في بورتوريكو عام 1974، والذي لم يعد موجوداً الآن. تقول بيث بيلر، عالمة الفلك في جامعة إدنبرة في المملكة المتحدة: “أنا لست قلقة حقاً بشأن سيناريوهات يوم الاستقلال”.
ومع استمرار البشرية في تغيير كوكبنا، بافتراض أننا لن ننهي وجودنا أولاً بالحرب أو غيرها من الوسائل، فمن المرجح أن تصبح الأرض أكثر وضوحاً. ويقول سوكاس-نافارو إن علماء الفلك الفضائيين قد يرصدون يوماً ما سحابة الأقمار الصناعية التي تدور حول كوكبنا. ويضيف: “سنحتاج إلى مليار ضعف ما لدينا الآن، وهو رقم يبدو كبيراً، لكننا انتقلنا من سيارة واحدة إلى أكثر من مليار سيارة في غضون بضعة عقود”.
وربما، إذا كنا حريصين على التواصل الأول، يُمكننا بذل المزيد من الجهود لجذب الانتباه، مثل بث رسائل كرسالة أريسيبو. حتى الآن، لم تُجرَ سوى محاولات قليلة أخرى . ويقول ريمر: “لو كان الأمر بيدي فقط، لبثثتُ وجودنا على أمل أن يُجيبني أحدهم، لكن هذا مجرد رأيي، أعتقد أن هذا قرار يجب اتخاذه عالمياً”.
ويقول بيتي إنه إذا أيّد الجمهور الفكرة، فقد تتمثل إحدى الطرق في بناء هياكل ضخمة في الفضاء، مثل مثلث أو مربع كبير بحجم كوكب مصنوع من مادة رقيقة تبدو اصطناعية لعلماء الفلك الفضائيين. ويضيف: “ستكون هذه هي الطريقة الرئيسية لجذب الانتباه، إذا أردنا ذلك”.
وفي الوقت الحالي، لا تزال علامات وجودنا متواضعة، لكنها لا تزال قابلة للرصد. ويقول سيث شوستاك، كبير علماء الفلك في معهد سيتي (البحث عن ذكاء خارج الأرض) في الولايات المتحدة: “إنهم لا يحتاجون إلى معجزات، إنهم يحتاجون فقط إلى التكنولوجيا التي لدينا، ولكن على نطاق أوسع”.
السؤال الحقيقي الذي يجب أن نسأله هو: هل هناك من ينظر في اتجاهنا ليلاحظ ذلك؟
المصدر: بي بي سي عربي