آخر الأخبار

spot_img

الوديعة الاخيرة 

صحيفة الثوري  – ثقافة:

د . بشير ابواصبع

“في النهاية، كل القصص هي نفس القصة: إما أن نبيع أرواحنا، أو ندفنها. الفرق الوحيد هو في سعر الجنيهات، ولون التراب الذي سننام تحته(ادواردو جولياني).

حكاية مفرج بن غيمان :

“في ذلك العام الذي انسحقت فيه الأرواح تحت سندان الجوع، حين صار الخبز أحجيةً لا تُحلّ، وصرنا نلتهم ظلالنا خوفًا من الفناء… خرجتُ حاملاً أنفاس قومي بين ضلوعي، تلك الأنفاس التي سلّمتها إليّ عيونٌ جائعةٌ تلمع كالنجوم في ليالي الصحراء القاسية.

لم أكن سوى ظلٍّ يبحث عن نور، رجلٍ يعرف لغة الرمال لكنه يتلعثم أمام أقنعة البشر. وصلتُ إلى سوق ‘إب’ حيث تتكدس الأقنعة فوق الأقنعة، وحيث يتحول الشرف إلى سلعةٍ تُعرض في وضح النهار.

سلّمتُ المزودة – ذلك القلب النابض لقبيلتي – لـ ‘سالم بن عيبان’، وهو يجلس على كرسيه كتمثالٍ من حجر، عيناه تشبهان بئرين جافتين. ظننتُ – يا لسذاجتي – أن الأمانة ستكون في حِمى ذلك الوجه المهيب، لكنّ الوجوه يا صاحبي قبورٌ تُخفي خلفها جثث الضمائر.

عندما أنكر، لم أستطع أن أُصدّق أن كلمات البشر قد تتحول إلى سكاكين تُغرز في الظهر. شعرتُ كأنّ الأرض انقلبت فوق رأسي، وكأنّ السماء صارت تحت قدمي. ثم جاءني ‘حسان بن نعمان’، ذلك الرجل الذي يبدو كشبحٍ خرج من ضباب الماضي، وقال لي كلماتٍ كالماء في الصحراء: ‘الحقّ غائبٌ لا مفقود’.

في قصر الباشا، حيث تُحاك المؤامرات تحت قناع العدل، شهدتُ كيف أن الأكاذيب تسقط واحدةً تلو الأخرى كأوراق الشجر الميت. لكنّ السؤال الذي بقي يُطارحني في الليل: أيّنا كان الخائن الحقيقي؟ أنا الذي سلّمتُ ثقة قومي لغرابٍ أسود، أم هو الذي سلخ جلده ليظهر ذئبًا؟”

حكاية سالم بن عيبان:

“هل تعرفون ما معنى أن يكون المرء شيخًا للسوق؟ أن تتحول إلى مرآةٍ يعكس فيها كلٌّ منهم أطماعه، ثم يُلقون عليك اللوم عندما تتشقق المرآة!

جاءني ذلك البدويّ الهزيل، يحمل مزودته كأنها تابوتُ أموات، وطلب مني أن أكون حارسًا لأحلام قومه. قبلتُ لأنّ الشيخوخة جعلتني أعتقد أنني ما زلتُ ذلك الفارس الذي يُردّ الأمانات.

لكنّ ‘مليحة’، تلك المرأة التي تتسلل إلى أحلامي كالأفعى، همست في أذني: ‘لماذا تُعيد الشمس إلى الشرق وهي أتتك غربًا؟’. وأنا – يا للعجب – بدأت أرى الحكمة في كلامها! هل الطمعُ خطيئةٌ أم هو الحقيقةُ التي نخاف أن نعترف بها؟

عندما أنكرتُ المزودة، لم أنكرها على ذلك البدويّ المسكين، بل أنكرتها على نفسي التي لم تعد تعرف وجهها في المرآة. ثم جاءني الباشا بوجهه الذي يشبه السكين المغلفة بالحرير، وأدركتُ أن العدلَ ما هو إلا لعبةُ قطٍّ يلعب بفأرٍ قبل أن يلتهمه.”

حكاية عامل جبلة (الباشا):

“في قصر العدل – إذا جاز أن نسميه عدلًا – نحن لا نحكم على الأفعال، بل نحكم على الظلال التي تتركها النفوس على الجدران.

جاءني ذلك الرجلُ الصحراويُّ بعينيه المشتعلتين كجمرتين، يحكي عن مزودةٍ اختفت في متاهة الأخلاق. و’سالم بن عيبان’، ذلك الشيخ الذي صار وجهه كالقناع الأصفر، كان يجلس أمامي كتمثالٍ من شمع يذوب تحت شمعة الحق.

أمرتُ بمبادلة الخواتم، لأنّ الخاتمَ – يا سادة – هو العقدةُ الأخيرة في حبل المشنقة التي ينسجها الخائنون لأنفسهم. وعندما عادت المزودة، رأيتُ في عيني سالم ذلك الشررَ الأخير قبل الانطفاء.

لكنّ السؤال الذي يبقى: هل أنا من أنصف، أم أنني مجردُ محصلةٍ حسابيةٍ بين خطيئةٍ وظلم؟”

حكاية مليحة زوجة سالم بن عيبان:

“الناس يتحدثون عنّي كأنني الشيطان نفسه! لكن هل سأل أحدهم: لماذا تصرخ المرأة إن لم يكن الصراخُ آخرَ سلاحٍ لها في هذا العالم الذكوريّ؟

رأيتُ المزودةَ، ورأيتُ فيها خلاصنا من ذلّ الديون. قلتُ لسالم: ‘هل تريد أن نموت شرفاءَ وفي بطوننا حجارة؟’. لكنّ الرجالَ – كما تعلمون – يحتاجون دائمًا إلى امرأةٍ تحمل عنهم وزرَ قراراتهم.

عندما جاء العسكري بالخاتم، شعرتُ كأنّ القدرَ يضحك عليّ من وراء ستار. أعطيتُه المزودةَ لأنّي عرفتُ أن اللعبةَ انتهت، وأنّنا – أنا وسالم – لم نكن سوى دميتين في مسرحيةٍ كُتبت نهايتها قبل أن نولد.”

حكاية العسكري التابع لعامل جبلة:

“مولاي الباشا أعطاني الخاتمَ وقال: ‘اذهب’. لم أعرفْ لماذا اختارني أنا بالذات. هل لأنّ وجهي لا يحمل أسرارًا، أم لأنّ عينيّ لا تعرفان الكذب؟

دخلتُ دارَ الشيخ سالم، فرأيتُ المرأةَ تقف كالذئبة الجريحة. عندما سلمتُها الخاتم، لمحتُ في عينيها ذلك اللحظةَ التي تعرفُ فيها الفريسةُ أن الفخَّ قد انغلق.

عدتُ بالمزودة، لكنّني لم أعد ذلك الرجلَ الذي كان. لأنّ العدلَ – كما رأيت – هو مجردُ وجهٍ آخرَ للقوة.”

حكاية حسان بن نعمان :

“كنتُ شاهِدًا على المسرحية كلّها، من أول فصلٍ إلى آخرِ فصل. رأيتُ البدويَّ يبحث عن عدلٍ ليس له، ورأيتُ سالمًا يبيع روحه لقاء فتات الخبز، ورأيتُ الباشا يلعبُ دور الإله بينما هو ليس سوى بشرٍ يعرف كيف يقرأ الخريطة.

لكنّي تعلمتُ درسًا واحدًا: لا توجد أمانةٌ تضيع، بل توجد أرواحٌ تموت قبل أن تدخل القبور. والدنيا – يا سادة – ليست سوى سوقٍ كبيرٍ تُباع فيه الأخلاقُ بأرخص الأثمان.”

حكاية الراوي :

عادت المزودة إلى صدر مفرج بن غيمان، ثقيلةً كجبل، خفيفةً كريشة. عادت وهي تحمل رائحة الخيانة، وعطر العدل، وعبق السؤال الذي لن يُجاب عليه:

“هل كان المالُ هو الأمانة الحقيقية، أم كانت الأمانةُ هي تلك اللحظة التي وقف فيها البشرُ على حافة الهاوية، ثم اختاروا؟”

سالم بن عيبان، ذلك الشيخ الذي صار ظلًّا لذاته، يُساق في السوق كما تُساق الجمال إلى الذبح. الناس يبصقون على وجهه، لكنهم يمسحون بصاقهم بأكمامهم سرًّا، كأنما يخافون أن يكونوا هم التاليين.

أما مليحة، فقد وقفت على عتبة الدار، تشاهد زوجها ينهار كتمثال من ملح. في عينيها لم يكن ندم، بل تعجبٌ من عالمٍ يبيع الوهمَ ثم يعاقبُ من صدّقه.

العسكري الذي نقل المزودة يحكّ رأسه كل ليلة:

“لقد أنصفتُ بدويًّا، لكنّي خنتُ امرأةً ”

والباشا، جالسٌ في قصره، يدور في فلك السؤال نفسه الذي يدور في سماء اليمن منذ الأزل:

“هل العدلُ الذي نصنعه بأيدينا سوى ظلٍّ للعدل الذي نحلم به؟”

أما حسان بن نعمان، فقد اختفى في ضباب الصباح، تاركًا وراءه حكمةً تُروى في السوق حتى اليوم:

“احذروا الأمانات.. فبعضها يُردّ بالمال، وبعضها يُردّ بالدم، وبعضها لا يُردّ أبدًا.”

ومفرج؟

سار عائدًا إلى صحرائه، والمزودة على ظهره كجرحٍ مفتوح وورائه يجر قافلة من الجمال تحمل احتياجات قبيلته .

في الطريق، مرّ ببئرٍ قديم، فنظر إلى الماء، فرأى وجهه، فرأى وجه سالم، فرأى وجه الباشا، فرأى وجوه الجميع مختلطةً كأنها وجهٌ واحد.

وواصل سيره، بينما كانت الشمس تغرب خلفه، كأنها قطعة ذهبٍ كبيرة،

تُسقط ظلًّا طويلًا على أرضٍ

لا تعرف إلا لغة الجفاف.