“صحيفة الثوري” – كتابات:
د. رياض الصفواني
تحت هذا العنوان صدر مقال في صحيفة صوت اليمن، الناطقة باسم الجمعية اليمانية الكبرى في عدن، التي رأس تحريرها الأستاذ أحمد محمد نعمان (العدد ٦٣، السنة الثانية، ٢٢ يناير ١٩٤٨م/١٣٦٧هـ). يتحدث المقال عن الوعود المعسولة التي أطلقها الرئيس الأمريكي “هاري ترومان” لشعوب العالم الثالث النامية، ومن بينها الشعوب العربية، في خطابه الذي ألقاه في “سنترال بارك” Central park في أكتوبر ١٩٤٥م مبيناً سياسة حكومته الخارجية.
ومما ورد في الخطاب: “إننا لانوافق على أي تغييرات إقليمية في أي جزء صديق من العالم، مالم تكن متفقة مع رغبة الشعوب التي أعربت عنها بحرية. إننا نعتقد أنه يجب أن يُسمح لجميع الشعوب المهيأة للحكم الذاتي باختيار شكل حكوماتها بحرية دون أدنى تدخل من مصدر أجنبي. سنساعد على إنشاء حكومات ديمقراطية مسالمة بمحض اختيارها، وسنحاول الوصول إلى عالم لايمكن أن تعيش فيه النازية والفاشية والعدوان العسكري (في إشارة إلى النظم الألمانية والإيطالية واليابانية). سنرفض الاعتراف بأية حكومة تفرضها دولة أجنبية بالقوة على أية أمة”.
وذكر المقال في نقده لهذا الخطاب، كيف بدت تلك السياسة متناقضة، ولم يتم العمل بها، وصار موقفها مهادن ومتصالح مع المصالح الصهيونية، وبشكل واضح وشامل.
صدر هذا المقال بعد أقل من شهرين من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين (٢٩ نوفمبر ١٩٤٧م) إلى دولتين: يهودية وفلسطينية مع تدويل القدس، دون مراعاة لحقوق الشعب الفلسطيني الواقع تحت الانتداب البريطاني منذ عام ١٩٢٠م في الحرية وإقامة دولته المستقلة. وكان قد سبقه نشر تحقيق صحفي في العددين ٥٦، ٥٧ من ديسمبر ١٩٤٧م لنفس الصحيفة (صوت اليمن)، للتحقيق في ما وصفته بـ “أحداث الفتنة وبواعثها” التي نشبت بين بعض أهالي مستعمرة عدن وبعض اليهود، كرد فعل على رفض الأهالي قرار التقسيم، مما نتج عنه بعض الخسائر البشرية والمادية في الطرفين، علاوةً على الإضراب الذي عطّل العديد من المرافق الإدارية، فأعلنت سلطات الاحتلال البريطانية يومذاك حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أيام، والتحقيق في أسباب الحوادث واعتقال القائمين بها، وفق ما أوردته صحيفة”فتاة الجزيرة” في عددها ٣٩٩، الصادر في ديسمبر ٤٧م، تحت عنوان “حالة الطوارئ في عدن: اضطرابات خطيرة لأول مرة في هذه البلاد”. عكست تلك الحوادث مع السخط الذي أبداه بعض الأهالي في بعض المناطق الداخلية من اليمن كما ذكر البردوني في كتاب “اليمن الجمهوري” الموقف اليمني من القضية الفلسطينية بوصفها القضية الأولى للعرب والمسلمين، ورفض أي قرار يمس حقوق الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدساته.
كما صدر ذلك الخطاب قبل أقل من ثلاثة أعوام من إعلان قيام دولة الكيان الصهيوني في فلسطين ١٤ مايو ١٩٤٨م، والتي سارع الرئيس الأمريكي ترومان إلى الاعتراف بها بعد عشر دقائق فقط من قيامها، الأمر الذي يؤكد تناقض خطابه السياسي مع دعمه الفعلي للكيان الصهيوني، بل استهتاره بحق الشعوب في تقرير مصيرها، وإقامة كياناتها الوطنية المستقلة، على أسس ديمقراطية صرفة وفق مبدأ “ولسون” ١٩١٧م، كأساس للسياسة الخارجية الأمريكية، مباركاً تلك الخطوة غير الشرعية، واعداً بتقديم الدعم والمساندة المادية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية، وتوفير الحماية والغطاء السياسي، وهو ما تم بالفعل، فقد صرح ترومان بضرورة فتح أبواب الهجرة اليهودية من أمريكا وأوروبا إلى فلسطين، وإصدار مئة ألف شهادة هجرة لمئة ألف يهودي، كمرحلة أولى، وحل قضية فلسطين حلاً يضمن لليهود أمنهم واستقرارهم، زاعماً أن هذا واجبه الذي تمليه عليه تعاليم الرب، وأن لليهود الحق في العودة إلى أورشليم “أرض الميعاد”، وأن من شأن هذا الدعم أن يمهد لظهور المسيح المخلص، الأمر الذي يعكس توجه المسيحية الصهيونية وتأثير جماعات الضغط الصهيونية على السياسة الخارجية الأمريكية من ناحية، وتطبيق نظرية “أمن إسرائيل كجزء من الأمن القومي الأمريكي” من ناحية أخرى.
والجدير بالذكر أن تلك التعاليم التي يؤمن بها ترومان يؤمن بها أعضاء شريحة واسعة من الزعامات الفكرية والسياسية في الغرب عامة، وهي الشريحة التي أسهمت بصورة مباشرة في تخليق الكيان الصهيوني، وإمداده بكل وسائل الحياة والبقاء، منذ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول عام ١٨٩٧م في مدينة بازل بسويسرا، مروراً بالمؤتمر الأوربي الذي دعا إليه رئيس وزراء بريطانيا “هنري كامبل بنرمان” ١٩٠٥ – ١٩٠٧م، والذي تمخضت عنه وثيقة نسبت إليه لاحقاً، نصت على حق اليهود في إقامة دولتهم في فلسطين، ودعمها، وحمايتها، لما من شأنه دعم وحماية وتعزيز المصالح الغربية في المنطقة العربية أو ما اصطُلح عليه بالشرق الأوسط، مع التحفظ على المصطلح، وجعل تلك الدولة حاجز بشري وجغرافي يحول دون توحيد مشرق العالم العربي ومغربه، ثم تأييد المؤتمرات الصهيونية المتتالية حتى المؤتمر التاسع والعشرين في القدس عام ١٩٨٦م، وليست تصريحات “ترمب” بخصوص شراء غزة وتملكها كعقار وتهجير أهلها وإفراغها منهم، إلا حلقة قد لاتكون الأخيرة في سلسلة دعم ذلك الكيان اللقيط وتعضيده وشد أزره، في ظل واقع عربي إسلامي شديد البؤس والانحطاط.