صحيفة الثوري – تكنولوجيا
لم يعد الأمر مجرد استخدام واعٍ للتكنولوجيا، بل تطور ليصبح اختراقًا خفيًا لمشاعرنا. فأجهزتنا الذكية، من هواتف وحواسيب، تحولت إلى جواسيس بارعين يراقبون أدق تفاصيل سلوكنا الرقمي، محللين بذلك حالتنا النفسية دون أن ننتبه.
هذه المراقبة تتم عبر بيانات تبدو بسيطة وسطحية، مثل سرعة كتابتك للرسائل، وطريقة تصفحك للتطبيقات والمواقع، وتوقيت استخدامك للهاتف، وحتى تعابير وجهك التي قد تلتقطها الكاميرا دون قصد.
هذه القدرة الخفية تُعرف اليوم بمصطلح “الإدراك العاطفي الاصطناعي”، وهي تقنية متطورة تسمح للتطبيقات والمواقع الإلكترونية بالتنبؤ بحالتك المزاجية والنفسية في لحظة معينة.
وبناءً على هذا التوقع، يتم توجيه محتوى أو إعلانات أو عروض مُصممة خصيصًا لتلك اللحظة العاطفية، مما يزيد بشكل كبير من احتمالية تفاعلك واستجابتك، وبالتالي وقوعك في براثن الإدمان الرقمي الخفي.
كيف يحدث هذا الإدمان غير المرئي؟ تعتمد معظم التطبيقات الذكية على جمع وتحليل آلاف الإشارات الدقيقة التي تكشف عن سلوك المستخدم. على سبيل المثال، إذا رصد هاتفك تباطؤًا في سرعة كتابتك أو لاحظ نمطًا مضطربًا في تنقلك بين التطبيقات، فقد يستنتج أنك تشعر بالقلق أو التوتر.
تُستخدم هذه المعلومات الحساسة لاستهدافك بمحتوى مُخصص لحالتك النفسية الراهنة. فقد تُعرض عليك مقاطع فيديو تبعث على الاسترخاء إذا كنت متوترًا، أو إعلانات لمنتجات قد تُشعرك بالراحة إذا كنت حزينًا. هذه الاستراتيجية الذكية تزيد من احتمالية استجابتك لهذا المحتوى أو الإعلان، مما يقودك إلى التفاعل المستمر مع التطبيق أو الموقع، وبالتالي الإدمان عليه دون أن تدرك تمامًا ما يحدث.
بمرور الوقت، يصبح المستخدم أسيرًا لدورة خفية من التأثير العاطفي، حيث يتم دفعه بلطف نحو أنماط استهلاك أو سلوكيات معينة دون وعي منه بذلك.
أمثلة واقعية من عالمنا الرقمي:
– بعض منصات التواصل الاجتماعي تقوم بتعديل أنواع المنشورات التي تراها بناءً على حالتك العاطفية المتوقعة، بهدف إبقائك أطول فترة ممكنة على المنصة.
– متاجر التسوق الإلكتروني تستخدم خوارزميات معقدة لتحديد اللحظات التي تكون فيها أكثر ميلًا للشراء بناءً على نشاطك الحالي وحالتك النفسية المستنتجة.
مقنيات الإعلانات اللحظية تبدأ في اقتراح منتجات مريحة أو مُحفزة بناءً على المؤشرات النفسية التي تستخلصها خوارزميات الهواتف الذكية أو الساعات الذكية.
المخاطر الحقيقية لهذا التلاعب الخفي:
فقدان التحكم الواعي:
تتحول مشاعرنا العابرة إلى محفزات استهلاكية قوية دون أن نعي ذلك أو نتحكم فيه.
الإرهاق الرقمي العاطفي:
التعرض المستمر لمحتوى مُوجه خصيصًا لحالتنا النفسية يمكن أن يؤدي إلى حالة من الإنهاك الذهني والعاطفي.
استغلال الضعف البشري:
يتم استغلال اللحظات التي نكون فيها أكثر ضعفًا وهشاشة لاتخاذ قرارات قد نندم عليها لاحقًا.
نصائح عملية للخروج من هذه الدائرة:
مراقبة أنماط الاستخدام: كن أكثر وعيًا بالتغيرات التي تطرأ على حالتك المزاجية أثناء تصفح هاتفك أو التسوق عبر الإنترنت.
تقليل الإشعارات والتنبيهات: الإشعارات المستمرة تساهم في تضخيم استجاباتنا العاطفية وتزيد من تعلقنا بالهاتف.
استخدام أدوات قياس الوقت الرقمي: استفد من تطبيقات أو خصائص مثل “مدة استخدام الجهاز” لمراقبة نشاطك اليومي والعمل على تقليله تدريجيًا.
منح نفسك فترات راحة رقمية: حاول إغلاق هاتفك لساعات محددة كل يوم لمنح ذهنك فرصة للراحة واستعادة توازنه الطبيعي.
لقد تجاوزت الأجهزة الذكية كونها مجرد أدوات نستخدمها في حياتنا اليومية، بل أصبحت بمثابة مرايا رقمية دقيقة تراقب أعمق لحظاتنا العاطفية. وإدراك هذه الحقيقة هو الخطوة الأولى نحو الحفاظ على استقلالنا النفسي في عالم رقمي متزايد التعقيد، حيث تتحول كل إشارة صغيرة نرسلها إلى فرصة محتملة للاستغلال الرقمي.