آخر الأخبار

spot_img

الدعوات لإعادة المشيخات: محاولة للمزيد من تفكيك الجنوب.

صحيفة الثوري-كتابات: 

د.فائزة عبدالرقيب

في مشهد يعكس اضطرابًا عميقًا في البوصلة السياسية، برزت في الآونة الأخيرة دعوات تنبش من الذاكرة زمناً غابراً ارتبط بالسلاطين والمشايخ في الجنوب العربي، وكأن عجلة الزمن قابلة للارتداد إلى الوراء استجابة لخطاب تغذّيه أوهام الحنين أو رهانات سياسية مضمرة. هذه الدعوات لا تأتي بمعزل عن الواقع، بل تندرج ضمن صراع محتدم بين ماضٍ يحاول بعضهم تلميعه، وحاضر يحاول الحفاظ على تماسكه وسط عواصف التشظي والانقسام، دعوات تستدعي من الذاكرة حسابات سياسية قديمة تحاول بعض التيارات إحياءها، غير آبهة بما أحدثه الزمن من تحولات عميقة في الوعي الوطني، أو بما راكمته التجربة من إنجازات وتضحيات. يستند أنصار هذه الدعوات إلى ما يسمونه “الشرعية التاريخية”، متجاهلين بأن تلك المشيخات والسلطنات، التي ينادون بعودتها، لم تكن سوى أدوات استعمارية لتكريس التجزئة وتمزيق النسيج السياسي والاجتماعي للجنوب قبل أن تأتي ثورة الرابع عشر من أكتوبر لتُنهي هذا الفصل وتؤسس لمرحلة جديدة عنوانها الكرامة والاستقلال والسيادة.

عقب الاستقلال، عرف الجنوب تجربة فريدة بطموحاتها، رغم انها لم تكن خالية من الأخطاء، لكنها حملت ملامح مشروع وطني تحرري حاول، رغم الصعوبات، أن يضع الإنسان الجنوبي على طريق الكرامة، ففتح أبواب التعليم والرعاية الصحية للجميع، وفرض معادلات جديدة في الأمن والاستقرار كانت غائبة عن مشهد ما قبل الثورة. المفارقة أن كثيرًا من الأصوات التي تطالب اليوم بإعادة النظام المشيخي هم ممن نشأوا وتعلموا في ظل دولة الجنوب، واستفادوا من منجزاتها، بل وكانوا من المدافعين الشرسين عن مبادئ الثورة وأهدافها. لقد كانوا بالأمس جزءًا من مشروع وطني تحرري، واليوم يتصدرون مشهدًا مناقضًا تمامًا، يطالبون بإعادة أنظمة تجاوزها بل لفظها التاريخ. هذا التحول يثير الكثير من الأسئلة عن الدوافع الحقيقية وراءه، وعن صدقية هذا التحول في القناعات، أم أنه مجرد اصطفاف ظرفي تفرضه لحظة سياسية مرتبكة أو مصالح ضيقة ترتدي لبوس التراث والتاريخ، أم انه مجرد تموضع سياسي ناتج عن تصفية حسابات مع مراحل معينة من التجربة الوطنية؟ وهل يدرك هؤلاء أن مطالبهم، في جوهرها، تمثل طعنًا في صميم ثورة أكتوبر وشهدائها وقادتها ورموزها من مختلف مناطق الجنوب؟

لا يمكن إنكار أن بعض المشايخ والسلاطين ساهموا في دعم الثورة، لكن تلك المساهمة المحدودة لا تلغي الواقع القاسي الذي كانت ترزح تحته مناطقهم، حيث سادت الأمية، وتفشى الفقر، وغابت الخدمات، في وقت كان فيه هؤلاء يمتلكون السلطة والثروة دون أن يحرّكوا ساكنًا لتغيير أوضاع الناس. واليوم، حين يُعاد طرح تلك الرموز كحل، فإن الأمر يتجاوز الحنين العاطفي ليتحول إلى محاولة لفرض رؤى لا تنتمي إلى الحاضر، ولا تعترف بتحدياته، وكأن الجنوب لم يخض بعد معاركه من أجل البقاء، ولم يتعرض لكل ما تعرض له من تمزيق وتهميش بعد حرب 1994 وما تلاها من تحولات مؤلمة.

المشكلة في هذه الدعوات، انها ليست مجرد نوستالجيا سياسية، بل في أنها تحاول فرض رؤى لا تنتمي إلى الحاضر ولا تُعير الواقع أي اهتمام، وكأن الجنوب لا يواجه تحديات هائلة في سبيل الحفاظ على تماسكه واستقراره.

المستقبل لا يُبنى على استحضار رموز تجاوزها التاريخ، بل على تحليل تلك التجارب بعيون ناقدة وبروح منفتحة على المستقبل، فالثورة التي أنجبت الحرية لم تكن مجرّد لحظة عابرة، بل كانت نتيجة مسار طويل من النضال والتضحية والرؤية التقدمية لمجتمع عادل ومتكافئ. وحتى حين تعثرت تلك التجربة نتيجة الحصار الدولي والتجاذبات الجيوسياسية بين القطبين الكبيرين، فإن مشروعها لم يفقد جوهره الأخلاقي، ولا أهدافه الكبرى. المؤسف اليوم أن بعض هذه الأطروحات ليست عودة إلى الوراء فقط بل انها مغامرة فكرية محفوفة بالمخاطر و تهديد مباشر لكل ما تحقق عبر عقود من النضال. اطروحات
تحوّلت إلى أدوات تستخدم في لعبة الصراع السياسي، تُوظَّف لتكريس الانقسام، وتخدم أجندات لا تمت بصلة لمصالح الجنوب أو لطموحات أبنائه، بل تعمل على إعادة إنتاج نخب تقليدية تسعى إلى موطئ قدم جديد في مشهد يزداد اضطرابًا.

من الصعب تصديق أن العودة إلى الوراء يمكن أن تكون حلاً، في وقت يزداد فيه تعقيد المشهد السياسي والاجتماعي. فالتمسك بهياكل الماضي لا يحمل إلا مزيدًا من الانقسامات والخيبات، ويزيد من الفوضى بدل أن يقدم لها حلولًا. السؤال الذي يفرض نفسه اليوم ليس كيف نُعيد أمجاد المشيخات و السلاطين، بل كيف نبني جنوبًا جديدًا يتسع لجميع أبنائه، ويضع الإنسان في قلب مشروعه الوطني. الإجابة لا تكمن في استدعاء صور الماضي، بل في صياغة مشروع جامع، عادل، إنساني، يُنقذ ما تبقى من أمل، ويعيد الاعتبار لقيم الكرامة والعدالة والتنمية، ويعيد توجيه البوصلة نحو وطن لا تسكنه الأشباح، بل يزدهر بأحلام أبنائه، حيث لا مكان فيه لنُظم تقادمت، ولا لخطابات لم تعد تُقنع أحدًا.