“صحيفة الثوري” – ثقافة وفكر:
د. بشير أحمد أبواصبع
مع أولى خيوط الفجر، حيث النور يتسلل كطيفٍ خجول بين فرجات القمرية المزخرفة، استيقظت كما اعتدتُ دائماً. نافذتي تلك، التي لا تكف عن بعث الدهشة في نفسي، تتبدل أشكال نقوشها بين راقصة تانغو برازيلية تتمايل بخفة، وتمثالٍ غابر لملكةٍ فرعونية، ملامحها أقرب إلى سرابٍ يتلاشى عند أول نظرة.
جلست إلى طاولتي، تحتسي يداي فنجان قهوتي المعتادة، بينما تأخذ رئتاي أنفاس الصباح الأولى من سيجارتي. العادة، يا لها من طقسٍ متكرر، لكنها وحدها تمنحني شعوراً زائفاً بالسيطرة على الزمن. فتحت هاتفي، متصفحاً ذلك العالم الافتراضي الذي أصبح نافذتنا على الواقع، وإذا بي أجد منشوراً غريباً، كُتب فيه:
“أنا رسامٌ ونحاتٌ بارع، ولوحاتي تمنح الخلود. لكنني اليوم أعيش أحلك لحظات الاحتياج. أقدم عرضاً خاصاً: من يرسل لي هذا الصباح مبلغ خمسين ألف ريال، سأرسم له لوحة تحفظ ملامحه إلى الأبد، فلا يغيره الزمن ولا يهزمه المرض. الموضوع ثقة، وأقسم بشرف الكشافة!”
ابتسمتُ، لكنها لم تكن ابتسامةً عادية؛ كانت مزيجاً من استهجانٍ وسخريةٍ وشعورٍ مبهم بأنني وقفتُ أمام بابٍ كُتب عليه: “لا تفتحه، وإلا لن تستطيع إغلاقه!” ورغم ذلك، دفعتني روحي العتيقة إلى كتابة الرد:
“أرسل لي اسمك الرباعي ورقم هاتفك، وفي الساعة التاسعة سيكون المبلغ في حسابك.”
ما إن أرسلتها، حتى استحوذت عليّ رغبة في معرفة المزيد عن هذا الرجل الغريب. ولما قلبت صفحته، ازددت دهشةً! إنه رسامٌ بحق، ونحاتٌ تشهد أعماله بعبقريةٍ يائسةٍ يتملكها الجنون. تأملتُ منحوتاته، لوحاته، كأنني أنظر إلى قطعٍ من أرواحٍ أُخذت من عالمٍ آخر. وصلني ردُّه سريعاً، كأنه كان ينتظرني:
“أرسل لي صورتك التي تفضلها.”
لكنني كتبتُ له بجملةٍ مقتضبة، تحمل ثقةً لا أعرف من أين استمددتها:
“سأترك لك الاختيار، اختر ما تشاء من صوري على صفحتي… وأتمنى لك الخلود في هذا العالم البائس، أيها الفنان.”
نهضتُ لأرتدي ملابسي، وما إن وصلتُ إلى المصرف حتى اتصلتُ به، مستفسراً عن اسمه الكامل، فجاءني صوته عبر الهاتف، مبحوحاً لكنه ثابت:
“قبل أن ترسل المبلغ، يجب أن تعرف شرطاً واحداً: لا يمكنك النظر إلى اللوحة بعد استلامها. فإن نظرت إليها، ستلاحقك لعنة البؤس والقبح إلى الأبد. احذر، احذر كل الحذر!”
عبارته تلك أحدثت في داخلي ارتباكاً غريباً، شعوراً ممزوجاً بين الاستهزاء والخوف الغامض الذي يراودنا عند سماع أسطورةٍ قديمة، لكنني تجاهلتها كأنها لم تكن، وأتممت التحويل دون تردد.
عندما خرجت من المصرف، وقفتُ للحظة في منتصف الشارع، أسمع ضجيج الحياة، السيارات المسرعة، الأحاديث المبعثرة، ثم خاطبتُ نفسي بصوتٍ مرتفع، لا أخشى أن يسمعني المارة:
“يا بشير، لقد أرسلت مبلغاً محترماً لرجلٍ لا تعرفه، ليمنحك الخلود في لوحة! يا للجنون!”
قهقهتُ عالياً، كأنني أضحك على نفسي، أو ربما… على العالم بأسره.
#اللوحه_وانا
(يتبع…)