الثوري – كتابات/
محمد عمر بحاح *
لم يتحدث “الأستاذ ” يوماً عن نفسه كما يفعل كثير من السياسيين المهوسين بحب الذات، كان مهموماً بقضايا أكبر، الوطن والإنسان والمستقبل، كان يحمل هم وطن في جزء منه تحت الإحتلال البريطاني منذ أكثر من قرن، وفي جزئه الآخر تحت حكم الأئمة السلالي، وفي أغلب أجزائه الأخرى يخضع للإستعمار الأجنبي، أو الإستيطان الصهيوني كما هو حال فلسطين السليبة، المسمار الذي غرسه الاستعمار الغربي والصهيونية العالمية في قلب الوطن العربي.
لم يسأل ابداً عن همومه الخاصة بقدر ما كان مشدوداً إلى أشواق وتطلعات شعب وأمة همها التخلص من نير الإستعمار وظلم الطبقات المستغلة( بكسر الغين) والسعي من أجل التطور، لهذا كرس قلمه وكفاحه للقضايا الكبرى، وابتعد عن سفاسف الأمور والخصومات الشخصية. وعلى الصعيد الشخصي عاش حياة الزهد وبمنطق التقشف، والمتسامح الذي لا يسعى إلى الانتقام من خصومه الذين كثيراً ما أساءوا إليه، وناله منهم الأذى، ليس ذلك فحسب، بل كان يملك رؤيا مستقبلية تجعله قادراً ليس فقط على نسيان الإساءة بل التحالف مع من يرى أنهم يتفقون معه في القضايا الإستراتيجية، بعكس أعداء شعبه الذين كان يعتبرهم أعداءه الحقيقيين. ولم يكن يتصالح أبداً مع هؤلاء، وأيضا لم يكن يهادن أبداً في القضايا المصيرية والمبدئية، وربما كان هذا الخط الأحمر الوحيد في حياة الأستاذ عبدالله باذيب. ولهذا أراح نفسه من الاهتمام بصغائر الأمور، أو الدخول في خصومات شخصية مع الذين يسلكون غير مسلكه.
2
لم أكد انشر مقالي: ” الأستاذ” … في شقتي، في (صوت عدن) الثلاثاء الماضي لصاحبتها ورئيس التحرير الإعلامية السيدة الفاضلة ضياء سروري، حتى توالت ردود الأفعال غير المفاجئة بالنسبة لي، فرجل بكل ذلك الألق والحضور والتاريخ، وبمواقفه الفكرية والسياسية، وبروحه وإنسانيته وتواضعه الجم، وإنجازاته السياسية والفكرية والتربوية والثقافية في هذا العمر القصير، لابد وأن يترك أثراً طيباً في حياة الناس، حتى وإن غيّبه الموت عن الحياة، لكنه يظل حاضراً في المشهد السياسي، وفي وجدان وقلوب الناس وفي التاريخ، فأمثاله يصعب نسيانهم، نفتقدهم، نحتاج لحكمتهم، وشجاعتهم، والإصغاء إليهم في كل وقت، وخاصة في الزمن الصعب، وإستحضار مواقفهم، وإستلهام نضالهم، والتأسي بهم، ليس بالضرورة تكرار نفس أفعالهم، وكلماتهم لأن الزمن يتغير باستمرار، وتلك صيرورة الحياة، بل استنباط واستلهام أفضل ما تركوه لنا من إرث سياسي وثقافي وإنساني.
3
بين هلالين؛ هلال الولادة سنة 1931م، وهلال الموت سنة 1976م، صُنع الأستاذ عبدالله باذيب في هذا العمر القصير
ما ينفع الناس ويمكث في الأرض ويذكرونه به إلى الأبد ..
4
حين أُعلن عن موته المُفاجيء ذلك اليوم لبست عدن الحداد، شاركت في جنازته مع الآلاف من أبناء الشعب الطيبين، التي انطلقت من مسجد العسقلاني حيث صلي على جثمانه الطاهر، ووري الثرى في مقبرة العيدروس، بلا نشيد وطني، ولا ملفوفاً بعلم الجمهورية والوطن الذي أفنى عمره في سبيل حريته وتطوره .. لم يمت بالسكتة القلبية فقط، فقد كانت إحدى أسباب الموت، بل قتلته خيانة رفاقه الذين لم يكن جلّهم يفهمون مايقوله، وجلّهم من الريفيين، شجاعتهم في نيران أسلحتهم فقط، ويعتبرون كل من لم يطلق الرصاص ليس ثائراً. تمنيت لو كان حياً ليرى ماذا فعل السلاح بثورتهم ووطنهم، وبهم في آخر المطاف!!
ما كنت لتطيق أيها القائد الفذ ذلك الرعب الذي اجتاح البلاد وقتل العباد وفتك بالتجربة التي كنت أحد أعظم صناعها ..ماكنت لتطيق ذلك…
5
وعودة إلى ردود الأفعال التى أثارها مقالي السابق عن الأستاذ، أورد هنا بعض الذي وصلني منها، أما ما لم يصلني فهو أكثر بكثير بالتأكيد. دولة الرئيس حيدر العطاس قال: “ذكريات رائعة مع شخصية نادرة” ، محمد عبدالقوي كتب يقول:
“مقال بديع وهادف في مدلوله ومحتواه عن شخصية فريدة في نضالها الوطني ووعيها وثقافتها وفكرها وتعاملها الشخصي والإنساني، فقد عايشته ما يقارب خمس سنوات وتسعة أشهر في وزارة الثقافة والسياحة منذ تعين وزيراً للثقافة والسياحة في نوفمبر 1971م وتعييني وكيلا للوزارة في ديسمبر 1971م حتى وفاته المؤسفة والمفاجئة في أغسطس 1976”. الشاعر د. مبارك سالمين علق قائلا: “تذكر رائع لفترة هي من أزهى فترات عدن المدينة والانسان..”.
والقاص والروائي سالم العبد علق: “الله يرحم باذيب ويجعل مثواه الجنة…..نعم شعرنا نحن خاصة بأثر فقده الكبير…”
وعبدالباري طاهر الكاتب ونقيب الصحفيين اليمنيين السابق كتب يقول:” تحية عظيمة لعظيم من عظماء الثقافة والصحافة والوطنية.. المنح التي أشرتم إليها عمّت بركاتها اليمن كلها لك التحية والإعزاز”، والكاتب عبدالحليم سيف علق:
“ذكريات جميلة ومؤثرة…طيب الله الخالد المفكر ورجل التنوير الأستاذ عبد الله باذيب”. بينما أن السياسي ابن عدن، ياسين مكاوي ركز على الجانب الإنساني من حياة الأستاذ قائلا:” عبدالله باذيب، ذلك الإنسان الذي نطرب لسماع لمساته الإنسانية”.
6
لم أكن في حاجة لأن أذكّرهم به، حتماً كان يسكن سويداء قلوبهم، فبعض الأفراد يستمرون في الحياة في قلوب وعقول من أحبهم وأحبوه.. تظل روحهم ترفرف حولنا نرى من شرفاتها الحدائق والجنة التي بشرونا بها حتى وإن اعترت الصعاب دونها إلى زمن قد يطول حتى لتبدو أنها مستحيلة!!
وهذه بعض الآراء الأخرى:
• رجل دولة نادر ،، الله يرحمه ويسكنه فسيح جناته.. بصمة.. انسانية.. عالمية.. رائعة وخالدة في تاريخ -جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية- منذ الخمسينات إلى ما قبل الثمانينات من القرن الماضي.
• انها سرد بسيط وواقعي عن حياة المناضل الشاب والمفكر باذيب، المقارع لأكبر دولة استعمارية في العالم آنذاك بمقاله” الثائر المسيح الذي يتكلم الانجليزية.” وبسببهوحوكم من قبل بريطانيا الدولة الإستعمارية..التي لا تغيب عنها الشمس، وأدخل للسجن، هذا المناضل والمفكر العالمي
تعرض كثيراً لأصناف عديدة من الظلم والتعذيب والقهر الجائر من بعض ساسة وحكام اليمن الجنوبي ولكنه ظل إنسانا مناضلا وطنيا أمينا وصادقا في أحلك الظروف المحيطة به من كل جانب في بناء وطنه ورعاية شعبه، فأسس حزبه الوطني الكبير إتحاد الشعب الديمقراطي الذي انظم إليه خيرة الشباب والعقلاء
الوطنيين.. ومن خيرة أعماله إرسال الكثير والكثير من أبناء اليمن شمالاً وجنوباً للتعلم والدراسة والاطلاع بمهنية صادقة على حياة الشعوب الجديرة بالمعرفة من مختلف النواحي العلمية والثقافية
والمعرفة الوطنية لبناء قدرات الشعوب.
كما أغنى الحياة الثقافية لبلاده بمختلف الثقافات ..هذا هو المناضل الوطني الحقيقي الغيور على وطنه، وساعد شعبه وشبابه على التعلم واكتساب المعرفة العلمية الحقيقية …وعلى احياء الثرات الثقافي والفني الجميل لبلاده….بكل الطرق الانسانية والمحبة الصادقة والتواضع الانساني الكبير الذي قلما نجده في إنسان اليوم .. انه الخالد في قلوبنا وحواسنا الادراكية، المناضل الوطني العالمي… عبدالله عبد الرزاق باذيب”.
• “حديث في قمة الإبداع …عن رجل هو الإبداع بعينه في كل تاريخه النضالي والثقافي والسياسي، ما أشد حاجتنا لأولئك الرجال، هل الأرض ولادة وستنجب من يتحلى ببعض صفاتهم وعطائهم لوطنهم وأهله بلاحدود، في زمن غاب فيه رجال الفكر السياسي المخلصين”؟!
□ □
ليس هذا كل ماقيل … ثم الكثير الذي غفلت عن ذكره لكثرته، فليعذرني من لم أذكر اسمه، أو ما قاله عن الأستاذ عبدالله باذيب .. فأمثاله لا ينسون، بل هم يصعبون على النسيان!!
لروحه السلام …
* محمد عمر بحاح كاتب وصحفي يمني.