الثوري – كتابات/
محمد عمر بحاح *
(1)
دق الجرس وفتحتُ الباب.. كانت مُفأجاة كبيرة جدأ لي، أن وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام الأستاذ..!
يا إلهي هل يعقل أنه هو…
عبدالله باذيب شخصياً بلحمه ودمه؟!
هل يعقل أنه صعد كل تلك السلالم حتى الدور الرابع حيث شقتي في عمارة كوريا موريا، الشارع الرئيسي بالمعلا.. لم يكن كبيراً في العمر، ( 1931- 1976) لكنه كان مريضاً بالقلب.
كان سياسياً من الطراز النادر، وأسس إتحاد الشعب الديمقراطي سنة 1961م، وهو حزب يساري، ووزيرًا للثقافة، وكان مثقفاً إشتراكياً بحق. قرأ الماركسية ورأس المال، واعتنق الفكر الإشتراكي عن قناعة لا كما هو حال أصحاب الجمل الثورية والمتطرفين، الذين أصبح على يمينهم!! لكنه قبل هذا وذاك كان وطنياً حتى العظم، خاض معركة الاستقلال الوطني والتحرر من الإستعمار منذ ريعان شبابه، فأصبح أحد أقطاب الحركة الوطنية المناضلة من أجل إستقلال عدن والجنوب اليمني المحتل من الإستعمار. وكان إنساناً بكل ما تحمل صفة الإنسان من معنى، وجمال، ونبل. وكان ذكياً، ومفكراً صاحب رؤية مُستقبلية يملأ صيته الآفاق، أو كما يقال أشهر من نار على علم.
ولعل أفضل وصف لشخصية الأستاذ عبدالله باذيب ما كتبه الكاتب (فضل النقيب) الذي وصفه بأنه “رجل الأمل المتدثر بالفكرة الخلابة، وكان دائما في الساحة بثقافته العالية، وقلمه الراقي، وحراكه الدؤوب، وواقعيته المبصرة، وقدرته على الإقناع والإستقطاب والتنظيم وإشاعة الطمأنينة والأمل واستثارة مواهب الإقدام والشجاعة وقدرات الجدل والحوار “.
تنوعت معرفة الاستاذ بين الأدب والثقافة والصحافة، والتاريخ والفلسفة والسياسة. رجل اجتمعت فيه كل هذه القدرات لابد أن تجعل منه قائداً من طراز نادر، وأن يلفت إليه الأنظار ويجعل منه (رقما صعباً لايمكن تجاوزه)، والتعبير أيضا لصديقي فضل النقيب.
لم يكن الأستاذ صديقي، ومعرفتي به على الصعيد الشخصي قريبة وقليلة، قابلته عدة مرات في سكنه المتواضع في فيلا صغيرة باللون الأبيض، من دورين في خور مكسر، من مُخلفات الإنجليز، وكانت المُناسبة إجراء حديث صحفي معه لصحيفتي ( 14 اكتوبر) وفي كل مرة كان سخياً معي، ولم يرفض ولا مرة واحدة لقائي أو يعتذر لأي سبب كما اعتاد غيره من المسؤولين، واقتصرت علاقتي مع (الأستاذ) على تلك المقابلات الصحفية ولم تتطور إلى علاقة شخصية بأي صورة من الصور، وكان هذا حسبي، إذ كُنت حديث عهد بالصحافة وعالم الكتابة، بينما كان الأستاذ يملك تاريخاً عريقاً بعالم الصحافة والكتابة، وأصدر وترأس تحرير العديد من الصحف في عدن وتعز، خاض بقلمه من خلالها معاركه السياسية والفكرية وهو شاب لايزال في مقتبل عمره، لكنه صار إسماً يشار له بالبنان، ودخل السجن وحوكم بسبب آرائه. وقصة محاكمته بسبب مقاله (المسيح الجديد الذي يتكلم الانجليزية) من أشهر المحاكمات السياسية في عدن ، وممن؟!من قبل سلطة الإحتلال البريطاني، الدولة التي تدعي الديمقراطية وحرية الصحافة!!
لكن يبدو أن الأستاذ كان يتابع كتاباتي عن كثب، باعتباري صحفياً شاباً صاعداً. لكنه لم يفصح لي عن ذلك إلا مرة واحدة، أبدى فيها إعجابه بمقابلة أجريتها مع نائب وزير خارجية المانيا الديمقراطية حينها خلال زيارة قُمت بها إلى برلين، وأذكر أنه اتصل بي بالتلفون عقب نشر المُقابلة وقال لي بالحرف : “هذا هو العمل الصحافي الذي نريده”. لكن ذلك كان بعد زيارته لي في شقتي في المعلا بعدة أشهر..
(2)
ما الذي جعل رجلاً بمكانة عبدالله باذيب، يصعد كل تلك الدرجات حتى الدور الرابع، ويتجشم كل هذا التعب ويقصد شقة صحافي شاب لا تربطه به أية علاقة تستدعي منه أن يزوره، ويتكلف كل هذا التعب؟!!
سؤال في محله ..
والحقيقة أنني لم أطرح هذا السؤال يومها، ولا حتى بعد ذلك بسنوات ،،اعتبرت المسألة طبيعية ولاتستحق الإستغراب،، وانشغلت بعد زوال الدهشة الأولى ولحظات الفرح بزيارة الأستاذ، القيام بواجب الضيافة.
كان أثاث شقتي متواضعا جداً، لم يكن فيها صالون حتى أدعوه للجلوس عليه، فجلس على الحصيرة، وحيث يجلس الأستاذ يكون الصدر، وحرصت على أن أقدم له الشاي العدني بالحليب والهيل بنفسي كنوع من التكريم له ولضيوفي الذين جاءوا معه وهن صديقات زوجتي ..لا أتذكر ما إذا كنت قدمت لهم مع الشاي شيئاً آخر مثل البسكويت أو الكيك!!
كنت حديث الزواج، لم يمر على زواجي بالاعلامية والمذيعة باذاعة وتلفزيون عدن رضية سلطان غير بضعة أيام، والحقيقة اننا لم نُقِم أنا وزوجتي حفل زفاف ولا أي مظهر من مظاهر الاحتفالات المُعتادة التي يقيمها العرسان وأهلهم في مثل هذه المناسبات، حتى أننا عقدنا قرآننا في مكتب الشيخ عبدالله حاتم، في مبنى وزارة العدل بالمعلا غير بعيد من سكني، وشهد على العقد الزميلان الصحفيان محمد عبدالله مُخشف ومحبوب علي، وأقام لنا سالم باجميل رئيس تحرير 14 أكتوبر حفلاً متواضعاً بالمناسبة في شقة الزميل شوقي الزوقري المدير الإداري لمؤسسة أكتوبر بدكة الكباش حضره عدد قليل من زملاء العمل . وكان هذا كل شيء.
تلك كانت المُناسبة التي جعلت الأستاذ عبدالله باذيب يطرق باب بيتي ذات عصرية، ويتجشم كل ذلك التعب والعناء وصعود السلالم، وينسى مرضه ليقدم التهنئة لنا بزواجنا.
(3)
تولى الأستاذ عبدالله باذيب حقيبة التربية والتعليم لفترة قصيرة لم تكن كافية لإحداث تغيير ذي شأن في بنية التربية والتعليم، لكنه غير مصير كثيرين من الطلاب من الأسر الفقيرة الذين كان يرسلهم إلى الإتحاد السوفيتي بالمئات، على حساب حزبه إتحاد الشعب الديمقراطي، حتى قبل الإستقلال وبعده الذين أكملوا تعليمهم الجامعي والعالي في مختلف التخصصات العلمية وعادوا للوطن وساهموا في عملية البناء التي كانت تشهدها اليمن الديمقراطية.
وحين تولى حقيبة الثقافة أحدث نقلة نوعية فيها خلال السنوات القليلة التي تولى فيها المنصب (1973 – حتى وفاته المفاجئة (عن 45 عاما فقط) سنة 1976 بسكتة قلبية أحدثت صدمة في عدن، خاصة انها حدثت بعد عودته من رحلة علاج ناجحة في الإتحاد السوفيتي، أذكر اننا بكينا وغرقنا في حزن عميق، أما رضية زوجتي فقد غرقت في نوبة بكاء إلى حد الإنهيار، لم تكن مصدقة أن الأستاذ مات بسكتة قلبية وقد زارته بعد عودته وكان في كامل صحته، إلى حد أنها في ذروة غضبها أطلقت اتهامات بأنهم قتلوه!! لم تسم أحداً بعينه، لكن المعروف من كانت تقصد .. وكانت رضية تنتمي إلى حزب الأستاذ باذيب إتحاد الشعب الديمقراطي، وصديقة لزوجته مرام.
(4)
عدن جميلة .. وأجمل مافيها إنها مدينة
يحب الناس فيها الحياة والفن، ورغم متاعب الحياة وصعوبة العيش وبساطته في معظم الأحيان لكن أهلها قادرون على الضحك وعلى السهر وعلى نسيان متاعبهم كأن شيئا لم يكن..
خلال السنوات القليلة التي تولى فيها الأستاذ باذيب شؤون الثقافة في البلد، حاول أن يبعث فيها حياة جديدة. أنشأ المسرح الوطني والفرقة الوطنية للمسرح، ومعهد الفنون الجميلة، والفرقةالوطنية للإنشاد، والفرقة الوطنية للرقص الشعبي، ومؤسسة السينما، واستقطب إلى الوزارة الكُتاب والموسيقيين والفنانين التشكييليين وأصحاب المواهب في التمثيل والإخراج، وحتى أولئك المغضوب عليهم من السلطة، “والمطاريد من الإعلام والأجهزة الفنية تجمعوا تحت مظلته في وزارة الثقافة بعد أن رمت الإستخبارات مكاتبهم وملفاتهم إلى ملعب الكرة في التواهي.
يقول فضل النقيب الذي كان أحد هؤلاء المطاريد: ( لم يشعر أحد منا ولو لثانية أننا خارج الإحترام)، وأوجد باذيب بأقل الإمكانيات وبهؤلاء حراكاً ثقافياً، وشجع هذا بقية المحافظات على إنشاء فرقها الخاصة في الموسيقى والغناء والرقص الشعبي والمسرح، كما أرسل العشرات من الطلاب لدراسة السينما والمسرح والفن التشكيلي وغيرها من التخصصات الفنية في الإتحاد السوفيتي وعدد من البلدان التي -كانت إشتراكية- ذات يوم، وكان لديه دون شك مشاريع أخرى لم يمكّنه موته المُفاجيء من تحقيقها، لكنه كان قد وضع اللبنة الأساسية التي اعتمدت عليها الحياة الثقافية في اليمن الديمقراطية في السنوات اللاحقة بعد وفاته.
وللأستاذ إرث سياسي عظيم ليس هنا أي مجاله..
أكذب كثيراً لو قلت إن البلد حظيت بسياسي ومفكر ووزير للثقافة مثله..
..نحتاج إلى رجال مثله حتى ننهض من كبوتنا، كان يحل خصوماته السياسية والفكرية بالكلمة، والحوار، يقارع الحجة بالحجة، وكان رجل الكلمة الحرة والحوار البناء، ويحاول أن يؤسس عالماً يحترم حياة الإنسان وفكره في محيط لا يؤمن بغير العنف وسيلة لحل الخلافات السياسية..
وعندما غاب رجال مثله لم تتعاف البلد ومازالت تدفع الثمن..
لم نعد نرى المدن الجميلة التي حاول عبدالله باذيب وأمثاله الإجتهاد في تأسيسها..
* محمد عمر بحاح كاتب وصحفي يمني.