صحيفة الثوري- ثقافة
جولان الوريدي
في آخر الليل،
حين يتلاشى العالمُ ويغدو الصمتُ أثقل من الفكر،
تبدأ الأشياء بالهمس.
هناك، في المسافة بين الحلم واليقظة،
أُغمضُ عينيَّ فأسمع آلةً في داخلي تعزفُ دون يد،
تتذكّر لحنًا من حياةٍ لم أعشها بعد.
يولدُ راعٍ صغيرٌ فوق جبلٍ من نور،
يعزفُ نايه للغيم البعيد،
فتستيقظُ سمكةٌ صغيرة
تحاولُ العودةَ إلى بحيرتها الأولى،
تسترجعُ شكلها الأول في الماء.
قطرةُ مطرٍ عالقةٌ على ورقةِ شجر،
ترتعشُ وهي تعرفُ أنَّها على وشكِ الوداع.
أمنيتُها الأخيرة: أن تعانقَ الأرضَ قبل أن تتبخّر،
أن تموتَ عاشقة.
في عمقِ التراب،
كانت جذورُ شجرةٍ تحفرُ يومياتِها بالصلابة،
والرياحُ تتجوّلُ بين الجبالِ كمتعبٍ بلا بيت،
تبحثُ عن شرخٍ صغيرٍ تخبّئُ فيه أنفاسَها.
قبلةٌ تفتّشُ في الهواء عن فمِها الضائع،
ونَسمةٌ باردةٌ تدورُ حولَ النوافذ،
تسألُ عن مقبضٍ يفتحُ لها الطريقَ إلى الدفء، تفتّشُ عن بيتِها الأول في صدري.
أمرُّ من بينِ الوديانِ على شكلِ نهر،
يتفقّدُ البركَ الصغيرةَ التي نسيها المطر،
يُقَلِّمُ أصابعَ الحصى بجريانه،
ويسألُها عن مصبٍّ قريبٍ
تستريحُ فيهِ سيقانهُ من الجري
من الوردةِ تعلّمتُ ألّا أبقى في قارورةِ العطر.
كانت تهمسُ لي في حنينٍ صامت:
«كنتُ أستنشقُ الهواء،
ثم صرتُ أنا الهواء.»
لم أفهمها آنذاك،
لكن شيئًا في عبيرِها يشبه القيامة،
تموتُ لتعودَ أنقى،
وتفهمُ سرَّ الغياب قبلنا جميعًا.
ومن حبّةِ القمحِ تعلّمتُ شكلَ الصلاة،
تعلّمتُ أنَّ الموتَ طريقٌ للحياة،
وأنَّ الترابَ — الذي كنتُ أراه نهايةً —
هو رحمُ البداية.
كانت القمحَةُ تُصغي للسماءِ تحتَ الأرض،
وتنبتُ صامتةً كما يُقال الشعرُ في الظلّ.
كلما ماتتْ،
وُلدتْ من جديدٍ في فمِ الخبز،
وفي رائحةِ الأيدي التي تعجنُها بالحنين.
عندها فهمتُ أنَّ الإيمانَ ليس مذهبًا،
بل رعشةٌ تسكنُ بين الأشياء.
أنا مؤمنٌ هربتُ من الديانات،
فوجدتُ الإلهَ ينتظرني خارجَ المعبد،
في الندى،
في القمح،
في الصمتِ الذي لا يطلبُ صلاةً ليُستجاب.
لم أعد أؤمنُ بالأشياء الصغيرة ولا الكبيرة،
فكلّها تمرُّ من يديّ كالماء،
تتركني فارغًا،
لكني ممتلئٌ بما عبر بي،
أنا الغيمةُ التي لم تُمطر،
لكنها أنجبتْ القوسَ في السماء.
أنا لستُ الموقدَ ولا النار،
أنا ذاكرةُ الدخان،
أعيشُ في أثرِ الاحتراق،
في الشرارةِ التي تنامُ تحتَ الرماد،
تحلمُ أن تستيقظَ على شكلِ نجمة.

