القاهرة _صحيفة الثوري:
المحرر الثقافي
رحل عن عالمنا في القاهرة، الأحد 10 أغسطس 2025، الأديب المصري البارز صنع الله إبراهيم عن عمر ناهز 88 عامًا، بعد صراع قصير مع التهاب رئوي، تاركًا خلفه إرثًا روائيًا فريدًا في السرد العربي، جمع بين دقة المؤرخ، وحساسية المبدع، وصلابة المناضل السياسي.
منذ بواكير تجربته، لم يتعامل صنع الله مع الرواية كفنّ جمالي محض، بل كأداة لمساءلة السلطة وكشف تناقضات المجتمع، فكانت أعماله ميدانًا تتقاطع فيه المادة الأرشيفية مع الحكاية، وتتماهى فيه القصاصات الصحفية مع السرد الشخصي، في نصوص مقتضبة لكنها مكثفة، متعددة الأصوات، تنكسر فيها خطية الزمن وتتشظى إلى شهادات ووقائع.
وُلد صنع الله إبراهيم عام 1937 في القاهرة لأسرة تقاطعت في حياتها الانقسامات الطبقية المصرية. انخرط في العمل السياسي مبكرًا ضمن الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو)، ودفع ثمن التزامه ست سنوات في السجن (1959–1964). هناك، في الزنازين، تبلورت قناعته بأن الكتابة فعل مقاومة، وأن السجن كان “جامعته” التي صقلت وعيه السياسي والفكري.
تجلّى مشروعه الروائي، الذي امتد لأكثر من نصف قرن، في أعمال بارزة مثل:
“تلك الرائحة” (1966) التي كسرت التابوهات في تناول الاغتراب ما بعد السجن، واصطدمت بالرقابة.
“اللجنة” (1981)، نص كابوسي مكثف عن الفرد في مواجهة بيروقراطية السلطة ورأسمالية العولمة.
“ذات” (1992)، رواية الطبقة الوسطى المصرية وهي تتآكل تحت وطأة التحولات من الاشتراكية إلى النيوليبرالية، في حبكة يتجاور فيها الخيال مع الأرشيف الصحفي.
“وردة” (2000)، توثيق روائي لثورة ظفار عبر مذكرات مناضلة يسارية، كسرد على “حافة الهاوية” بين الوثيقة والحلم المغدور.
لم يكن صنع الله إبراهيم مجرد روائي، بل مثقف عضوي بالمعنى الغرامشي، ظل على الدوام منحازًا للعدالة الاجتماعية ومقاومة الاستبداد. جسّد ذلك الموقف في لحظة فارقة عام 2003، حين رفض جائزة الرواية العربية على مسرح دار الأوبرا المصرية، مهاجمًا الحكومة وسياساتها الداخلية والخارجية، ورافضًا “التطبيع مع القتلة”، كما وصف إسرائيل.
ظل صنع الله وفيًا لخياره اليساري، نقديًا حتى مع ما سُمّي “الثورات” حين افتقدت إلى برنامج طبقي واضح. وفي سنواته الأخيرة، واجه المرض بإصرار، حتى مع شعوره، كما شعر كثير من المبدعين العرب، ببرودة مؤسسات الدولة تجاه رموزها الثقافية.
برحيله، يفقد الأدب العربي واحدًا من أعمدته التجريبية، ويفقد اليسار العربي شاهدًا صلبًا على أن السرد يمكن أن يكون وثيقة سياسية، وأن الرواية قد تتحول إلى أرشيف حيّ للمقاومة والذاكرة.